قضايا وآراء

موقف فقهاء الإسلام من العنف في بلاد الغرب

1300x600

بينا في مقالين سابقين الأخطاء التي يقع فيها من يجيز قتل من يسيء للمقدسات الإسلامية، أو يمارس العنف في بلاد الغرب، بحجة أنهم غير مسلمين، وأنهم أعداء للإسلام، وقد ناقشنا في مقالنا السابق الأدلة التي يستند إليها أصحاب الرأي الذي يجيز هذه الأعمال، ونبين في هذا المقال موقف فقهاء الإسلام من هذه الأعمال.

لقد بين الفقهاء الموقف ممن يذهب إلى بلاد غير المسلمين، سواء المحاربين منهم، أو الذين بيننا وبينهم عهد، فحتى إن دخل بلاد قوم حربيين، أي بيننا وبينهم حرب، فقد أكد الفقهاء: أن دخوله إلى بلادهم يعد أمانا لهم، وعهدا منه لهم بذلك، لا يحل له أن يغدر بهم، أو أن يخونهم في مال، أو دم، أو عرض، وهو ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة في كتبها المعتبرة: أحناف، ومالكية، وشافعية، وحنابلة، وإليك نقولا منها. 

وأول ما نبدأ به: المذهب الحنفي، والذي استفاض فيه فقهاؤه في بيان سلوك المسلم في بلاد غير المسلمين، يقول الإمام السرخسي: (وأكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم؛ لأن الغدر حرام قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لكل غادر لواء يركز عند باب استه يوم القيامة يعرف به غدرته"، فإن غدر بهم، وأخذ مالهم، وأخرجه إلى دار الإسلام: كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك؛ لأنه حصله بكسب خبيث، وفي الشراء منه إغراء له على مثل هذا السبب، وهو مكروه للمسلم، والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين قتل أصحابه، وجاء بمالهم إلى المدينة فأسلم، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس ماله فقال: أما إسلامك فمقبول، وأما مالك فمال غدر فلا حاجة لنا فيه).


وقال ابن الهمام الحنفي في شرحه (فتح القدير): (وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا، فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ودمائهم؛ لأنه بالاستئمان ضمن لهم أن لا يتعرض لهم، فإخلافه غدر، والغدر حرام بالإجماع). 

وقال الميداني الحنفي: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان تاجرا، أو نحوه، فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم، ولا لشيء من دمائهم، أو فروجهم، لأن ذلك غدر بهم، والغدر حرام). 

وكل الكتب التي شرحت الهداية في الفقه الحنفي، قالت نفس الكلام، سواء باختصار، أو شرح أطول، وكلها متفقة على نفس الموقف الفقهي.

 

هذا هو موقف فقهاء المذاهب الإسلامية من التعدي على الدماء، أو الأموال، أو الأعراض، أو المجتمعات بأي أمر من الأمور التي لا يقرها الشرع، مما يفعله البعض بدعوى أنهم كفار، وأنهم لا حرمة لهم!! وقد نقلت نقولا مطولة عن الأئمة الأربعة كلها تتفق على حرمة هذا الفعل، وأنه لا يجوز الغدر بغير المسلمين في بلادهم، ولا خارج بلادهم، ما دام المسلم قد دخلها بأمان، وأمنوه،

 


وأما المذهب المالكي، فعلى نفس الخط في الرأي الفقهي، يقول ابن أبي زيد القيرواني: (فيمن دخل دار الحرب بأمان هل له أن يحدث حدثًا؟ 

من كتاب ابن سحنون: ومن دخل دار الحرب بأمان منهم، فهم فى أمان منه لما أمنوه. وإن اغتالهم فقال أمنونى ولم يعطهم هو أمان لم ينفعه. وإذا أمنوه فلا يسفك لهم دماءً ولا يأخذ لهم مالا. 

وعن قوم مسلمين أتوا دار الحرب غير ممتنعين، فقال لهم مشائخ أهل الحرب: ادخلوا آمنين فدخلوا، فلا يحل لهم أن يعرضوا لأهل الحرب في شيء. ولو أن أهل الحربرلقوا مسلمين فأخذوهم، فقالوا: نحن تجار دخلنا إليكم بأمان من أصحابكم فصدقوهم، فلا ينبغى للمسلمين بعد هذا أن يقتلوا منهم أحدًا).

كما أسهب المذهب الشافعي في هذه المسألة، إماما وتلامذة، فتكلم الإمام الشافعي في هذه المسألة، في أكثر من موضع من كتابه (الأم)، يقول رحمه الله: (إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان: فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم، أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم، ولا خيانتهم).
  
وقال الشافعي: (إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان، فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم، أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم، وإن أسر العدو أطفال المسلمين ونساءهم لم أكن أحب لهم الغدر بالعدو، ولكن أحب لهم لو سألوهم أن يردوا إليهم الأمان، وينبذوا إليهم، فإذا فعلوا، قاتلوهم عن أطفال المسلمين ونسائهم).
   
وقال ابن المنذر: (إذا دخل الرجل دار الحرب بأمان فهو آمن بأمانهم، وهم آمنون بأمانه، ولا يجوز له أن يغدر بهم، ولا يخونهم، ولا يغتالهم).
   
ويقول الإمام الماوردي: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، أو كان مأسورا معهم، فأطلقوه وأمنوه لم يجز أن يغتالهم في نفس ولا مال، وعليه أن يؤمنهم).

وأما المذهب الحنبلي فيتجه نفس الاتجاه في هذا الرأي، فأنقل منه هذا النقل، يقول بهاء الدين المقدسي الحنبلي: (ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه) لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بأمنه إياهم من نفسه، وترك خيانتهم، وإن لم يكن ذلك مذكورًا فهو معلوم في المعنى، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "المؤمنون عند شروطهم".

وقال أيضا ابن قدامة المقدسي الحنبلي: (من دخل إلى أرض العدو بأمان، لم يحلّ له أن يخونهم في مالهم، لأن خيانتهم محرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطا بتركه خيانتهم، وأمَّنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورا في اللفظ، فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان، فخاننا: كان ناقضا لعهده. 

فإذا ثبت هذا، لم تحل له خيانتهم، لأنه غَدْر، ولا يصلح في ديننا الغَدْر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم".

ويقول أبو يعلى الفراء: (وإذا دخل دار الحرب بأمان، وكان مأسورا معه فأطلقوه وأمنوه، لم يجز له أن يغتالهم في نفس، ولا مال، وعليه أن يؤمنهم كما أمنوه).
 
هذا هو موقف فقهاء المذاهب الإسلامية من التعدي على الدماء، أو الأموال، أو الأعراض، أو المجتمعات بأي أمر من الأمور التي لا يقرها الشرع، مما يفعله البعض بدعوى أنهم كفار، وأنهم لا حرمة لهم!! وقد نقلت نقولا مطولة عن الأئمة الأربعة كلها تتفق على حرمة هذا الفعل، وأنه لا يجوز الغدر بغير المسلمين في بلادهم، ولا خارج بلادهم، ما دام المسلم قد دخلها بأمان، وأمنوه، فليس من الإسلام رد الأمان بالغدر والخيانة، في المال، أو النفس، أو العرض، وهو ما اتفقت عليه كلمة المذاهب الأربعة.

هذه النقول التي ذكرتها، هي قليل من كثير لدى فقهاء الإسلام وتلامذتهم، ومدارسهم الفقهية، وقد أردت بذكرها: أن ترد علميا على من يتبنون مثل هذه الأعمال من العنف في بلاد الغرب، أو بلاد غير المسلمين.

والأمر الثاني: أنها ترد على الجهلاء الذين يتطاولون على التراث والأئمة، زاعمين أن من يتبنون العنف يلجأون للتراث، وأن كتب الأئمة القدامى هي التي تمدهم بالنصوص التي تجيز لهم هذه الأعمال، وهو كلام باطل وكذب، أثبتت هذه النقول كذبه، وأثبتت جهل من يقوم بالأعمال بها، وجهل من ينسبون العنف للتراث الإسلامي، وهو براء تماما.

وقد رددنا في مقال سابق على النصوص التي يزعم الطرفان: من يتبنى العنف، ومن يلصقه بالإسلام والتراث، عدم صحة ما زعموا، بل في نصوص الإسلام ما يمنع مثل هذه الأفعال، من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ولعلنا في مقالنا القادم إن شاء الله نبين هذه النصوص التي تدعو للرد على الحجة بالحجة، لا بالقتل والعنف.

Essamt74@hotmail.com