أخبار ثقافية

زياد رحباني.. مش كاين هيك تكون!

في ألبوم "ولا كيف" سنة 2001 مع السيدة فيروز كانت روح زياد مسيطرة تماما عليه دون أي اعتبار لتاريخ السيدة فيروز- جيتي

في أواخر السبعينيات تأزمت العلاقة الفنية بين الأخوين رحباني وفيروز، فذهب كل طرف لإثبات أنه موجود بدون الآخر، فبدأ الأخوان رحباني بالبحث عن بديل لفيروز، وأخذت فيروز بتطوير أفقها الغنائي مع ملحنين آخرين، إلا أنه في المجمل لم تكن هذه البدائل من خارج سياق التجربة لكليهما.

هرمان موسيقيان انتهى التعاون فيما بينهما، كانا معا يشكلان نجاحا مضمونا لكل ما يقدمانه، والمنافسة تشتد للاستئثار بنجاح مقبل، وبالطبع ستكون مهمة فيروز أسهل من مهمة الأخوين رحباني.


الأخوان رحباني أمامهما رونزا، جورجيت صايغ، هدى حداد. وفيروز أمامها فيلمون وهبي، زكي ناصيف، محمد محسن، وزياد رحباني.

ظلت تجربة الأخوين رحباني تنزاح لموسيقى التأمل محاولة تغيير مفهوم العرب للغناء.. وذلك على حساب الطرب الذي يسري في عروق الشرق، وبذلك فتحت هذه المدرسة بوابات لقادمين جدد ينهلون من هذا الأفق.

من الواضح أن فيروز ظلت تتوق إلى الطرب وإلى الانعتاق من الإطار الذي رسمه لها عاصي الرحباني عبر أكثر من ثلاثين سنة.. تتوق إلى التغيير.. إلى نكهة جديدة تطل بها على محبيها، تعاونها مع هذه الفئة من الملحنين يدل على ذلك، فكلهم ملحنون شرقيون أساس موسيقاهم الطرب، وإلا لكان الأولى بها التعاون مع ملحنين موسيقاهم تطل على موسيقى الأخوين رحباني مثل إيلي شويري وإحسان المنذر وربما مارسيل خليفة أو ملحم بركات في بداياته.

أكثر الملحنين الذين تعاونت معهم فيروز تطرفا هو زياد رحباني، متطرف في العبقرية وفي الأيدولوجيا وقد ينسحب تطرفه في السقوط أيضا.

الحرب الأهلية اجتاحت لبنان في الثمانينيات، زياد رحباني منفصل أيدولوجيا عن أمه. ولد هذا الفتى ببيت الرحابنة المحافظ مشبعا بالموسيقى فأبوه عاصي الرحباني وأمه فيروز، أتقن العزف على البيانو، وتقول الأسطورة إنه ألف ولحن مسرحية "نزل السرور" وعمره لم يتجاوز الـ17 عاما، لا شك أن هذه المسرحية بأصالة ألحانها وحبكتها البسيطة كانت تخبر عن عبقري فذ.

انتماؤه للخط اليساري.. وعماد ألحانه السخرية من كل شيء جعلا موسيقاه مؤدلجة.. ولكن دون أن تطغى على مشروعه الفني الذي انطلق وأعلن عن نفسه منذ الصغر، فأبدع زياد وتدفقت ألحانه، ويمكن اعتبار الحس الساخر هو العنوان العريض لإبداع زياد.. وأين فيروز من ذلك، لقد غنت أغنية البوسطة من ألحان زياد والتي غناها من قبل جوزيف صقر فأعطى لهذه السخرية طابعا خاصا.

أول ألحانه لفيروز كان "سألوني الناس" والتي كانت بكلمات ثانية للفنان مروان محفوظ، وقد نجح هذا اللحن نجاحا باهرا لكن هذا النجاح كان يسجل بامتياز للمدرسة الرحبانية، إن شخصية زياد كانت حتى ذلك الوقت غير واضحة الملامح وكانت مندمجة بالمدرسة الكبرى للرحابنة.

 


وجد زياد ضالته بالتعبير عن مشروعه الحقيقي بصوت جوزيف صقر، صوت جميل معبر، فيه حس ساخر ذو طابع خاص، في تلك الفترة كان زياد يعمل تحت شروط النجاحات المبهرة للمدرسة الرحبانية من جهة، ومن جهة أخرى يطلق صوته الخاص عبر حنجرة جوزيف صقر.. ألحان ساخرة ناقدة فيها الكثير من التطريب والقليل من الأيدولوجيا.. خلطة سلسة هضمها الشعب اللبناني واستساغها الجمهور العربي.

توفي جوزيف صقر سنة 97 وكان آخر تعاون له مع زياد في ألبوم "بما إنو" سنة 96. من الواضح أن مسيرة زياد الإبداعية تمشي بخطين متوازيين لكنهما غير منتظمين، تتنازعه الأيدولوجيا حينا بما فيها من نقد اجتماعي ينحاز للطرب وفيه يصب كل طاقته الإبداعية بتكوين مفهومه الخاص عن الموسيقى، لكن يتماشى مع ذلك خطه الثاني الذي يستمر بالعمل ضمن الأطر العامة للأغنية الرحبانية محاولا التطوير فيها.

 


وضمن عمله مع السيدة فيروز فقد ظل الخط الثاني يضمر على حساب الخط الأول حتى جاءت تلك الليلة التي اقتنعت فيها السيدة فيروز بأغنية "مش كاين هيك تكون" ألبوم صدر في سنة 99، فامتزج بذلك الخطان مع انحياز مؤكد للخط الأول.

 

وضمن وعيه أو وعي السيدة فيروز للتقليل من صدمة محبيها عند سماعهم لكلمات من قبيل "ضاق خلقي يا صبي" أو أغنية فيها كلمات "الصابون ومش كاين هيك تكون".. ضمن هذا الوعي.. قررت أن يطعم ألبوم "مش كاين هيك تكون" بألحان تتماشى مع جمهورها القديم فتعاونت مع الملحن السوري محمد محسن لغناء بعض المقطوعات الشعرية وبألحان لم يعد يأبه لها الجمهور لاحقا في ظل تغول ألحان زياد الساحق ضمن ذلك الألبوم.

إن مشكلة الأغاني التي تنزاح للأيدولوجيا بوضوح أنها تستجدي بعض جمالياتها المتممة للإبداع من خارج عناصر الإبداع الأساسي، فتخضع أحيانا للأمزجة والتقلبات التي تعتري الأفكار مع الزمن، ومقتل المبدع يكون في اعتماده على ذلك. تخضع هذه النظرة بشكل نسبي للمبدع حسب تمكن هذه الأيدولوجيا وسيطرتها على العملية الإبداعية.

في ألبوم "ولا كيف" سنة 2001 مع السيدة فيروز كانت روح زياد مسيطرة تماما عليه دون أي اعتبار لتاريخ السيدة فيروز. هذا الألبوم ظل مثيرا للجدل وبعد تسع سنوات استعاد زياد حيويته بألبوم "في أمل"، مازجا بين الخطين ببراعة ومؤثرا خط الأغنية الرحبانية بقوة على الخط الأول، يدل على ذلك تسمية الألبوم باسم أغنية رحبانية بامتياز لكن بروح هذا الفتى الذكي المعذب، والذي ظلت حياته وعذاباته تطل بوجهها الصغير من خلال الموسيقى التي يمنحنا إياها دائما.