كتب

هل تضطلع التقنية بتطوير الإنسان أم بالقضاء على الإنساني فيه؟

المغرب نشر كتاب (عربي21)
الكتاب: الإنسان المزيد
التأليف: جماعي
منسق التأليف: إدوار كلينبتر
ترجمة: جميل شاكر
الناشر: المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع- الدار البيضاء
سنة النشر: 2019

يطرح اليوم تطور العلم إشكالات كثيرة تتعلق بحدود تأثير العلم في مستقبل الإنسان وهويته وقدراته، فالعلم اليوم في حقول معرفية كثيرة، يحقق تراكمات نوعية، ويسعى لتحقيق هدف تطوير الإنسان وتحويله وتحديث قدراته، والدفع به نحو الاستزادة، سواء من خلال تقنيات التكنولوجيا أو البيوتكنولوجيا أو من خلال علم المعلومات والعلوم المعرفية.

لا يعير العلم في هذه الحقول المعرفية أي اعتبار للفواصل الموجودة بين الإنسان الممكن والإنسان المنشود، بل ينطلق أساسا من فكرة أن الإنسان الموجود يفتقر إلى جملة قدرات، وأن تطور التقنيات يمكن أن تجعل قدراته في مستوى أكبر، وأن ذلك يمكن أن يعود عليه بالسعادة واليسر وتطوير مستويات الحداثة بما يخدم الإنسان ذاته.

يتطلع العلم إذن، من خلال رصيد التطور في التقنيات التي حصلها، إلى أن يحقق هدف تجاوز الإنسان الحالي، وصناعة إنسان آخر متطور، يواكب التقنيات الحديثة ويستثمرها، ليس فقط في تطوير أدائه الحركي أو الجسدي أو الفكري، أو حتى التمديد في حياته، ولكن، يستثمرها لبناء حداثة جديدة تجعل علاقة الإنسان بالتقنيات التي يصنعها أكثر انسيابية وتفاعلا.

هذا الكتاب، هو في الأصل عبارة عن مخرجات ملتقى نظمه المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي في المغرب، وضم عددا من المختصين في حقول معرفية متعددة (العلوم الإنسانية والاجتماعية والإعلامية وعلم الإنسان الآلي، والبيولوجيا والعلوم المعرفية) بتاريخ 2012 حول الإنسان المزيد الواقع والآفاق النقدية، وذلك بدعم من المعهد الوطني للصحة والبحث الصحي، وقد كان القصد منه تقديم أرضية معرفية تخص الرهانات المعاصرة والجدل الذي يدور حول مفهوم الإنسان المزيد، وما رافق ذلك من آمال ومخاوف وتحديات.

التقنيات الحديثة بين تحويل الإنسان والزيادة فيه

ما طرح العلم منذ سنة 1990، وبخاصة في علم الأحياء المجهري مفهوم التعزيز الجيني البشري، وذلك في سياق معالجته للمناقشات حول علم تطوير النسل وتحسينه سنة 1970، غير أن التوجه الفرنسي مضى في اختيار لفظة الزيادة بدل التعزيز والتحسين، وإن كانت هذه اللفظة، أي الإنسان المزيد، لم تخل من انتقادات وإثارة إشكالات كثيرة.

ويقصد بالتعزيز الذي يراهن عليه العلم الحديث، من خلال تقنياته المتطورة في حقول معرفية مختلفة، ثلاث طبقات دلالية مميزة من المفاهيم؛ زيادة قدرة الفرد، وتحسين طبيعة الإنسان، ثم تحسين الذات.

لا تطرح الطبقة الأولى (زيادة قدرة الفرد) أي إشكال، فهي تتبادر إلى الذهن بسهولة، وتبدو أقرب إلى أن تكون امتدادا مباشرا للتعزيز الجيني باستعمال الطرق التقنية والبيولوجية والكيمائية لتدعيم القوة والذكاء وتمديد أمد الحياة.

أما الطبقة الثانية، فتتعلق بالتحويل البشري الذي يعني خلق إنسان جديد بمواصفات أخرى جديدة، فيما تعني الطبقة الثالثة كل الأدوات والأنشطة التي تهدف إلى مساعدة الفرد على تحقيق مشروع حياته وبلوغ مراده الوجودي.

يناقش هذا الكتاب تبعا لتشريح مستويات هذه الطبقات، ثلاث مسائل رئيسية، تتعلق الأولى بمقاربة أفقية تستند إلى تاريخ التقنيات، فيما تعنى الثانية بجرد أبعاد مفهوم الزيادة في الإنسان وطرح للعلاقة بالجسد، أما المسألة الثالثة، فتخص التساؤل المستقبلي حول إشكالية التحويل البشري وتداعياتها التقنية والفلسفية والأخلاقية والقانونية.

فعلى مستوى فهم أبعاد مفهوم الزيادة، يطرح الكتاب جملة تساؤلات حول التقنيات المتوفرة التي تنتمي إلى مجالها، والتقنيات التي يمكن تصورها وافتراض حصولها بصفة معقولة في مستقبل قريب، وكذا التقنيات التي تمت أكثر للوهم والخيال العلمي، أي مجموع هذه التقنيات الكيميائية والتقنية التي تهدف إلى تجاوز القدرات الطبيعية أو العادية للفرد، فيضع الكتاب ثلاثة مستويات لهذه التقنيات المؤثرة، التقنيات الموجودة، والصاعدة، والتأملية، التي لا يعلم أحد هل يمكن لها أن تتحقق في يوم من الأيام أم لا.

من التغيير إلى الزيادة

يتطرق الكتاب لمستويات التأثير الذي أحدثته التقنيات وتطور المعارف البيولوجية في تغيير الإنسان، فيشير إلى العمليات المباشرة التي أثرت على الجسم، من خلال استعمال تقنيات طبية غير علاجية، ويضرب على ذلك مثلا بالمنشطات التي تزيد في عدد الكريات الحمر، وتستعمل في الأصل كدواء في حالات القصور الكلوي أو الأمراض الدموية، وكذلك تقنيات تجريع الإنسان بعض الهرمونات التي تعزز طاقته وتجعله أقدر على التحمل وتمديد الأداء العضلي، كما يشير إلى أثر الجراحات التجميلية في تقويم الأفراد الذين يعانون من آلام فزيولوجية، ويشير أيضا إلى بعض المواد التي يتم استعمالها لمعاجلة بعض الاضطرابات المتسببة في نقص الانتباه لدى الأطفال لتعزيز أدائهم في الامتحانات.

ويطرح الكتاب إشكال الاصطلاح، وهل تقوم التقنيات الحديثة، لاسيما منها الطبية في معالجة الإنسان، أم في الزيادة في قدراته، ويستعرض آراء بعض الأطباء الذين يتحدثون عن وجود نقص عضوي لدى بعض المرضى، وأن عملية المعاجلة تأخذ مفهوم الزيادة، إذ يضطلع العضو الاطصناعي بتأهيل الوظيفة الناقصة وعودة المريض إلى الحالة الطبيعية.

حدود الإنسانية في الإنسان المزيد

يتعدى الكتاب إشكال الاصطلاح، ودلالات الزيادة والتحويل ومستويات ذلك، إلى طرح سؤال فلسفي وأخلاقي يرتبط بعلاقة الإنسان المزيد بتصور الإنسان للإنساني، وهل الارتقاء بقدرات الإنسان، وجعله مزيدا، يعني القطيعة مع الإنسان السابق، أم يعني الاستمرارية المنطقية للتقدم التكنولوجي، فاستعرض الكتاب بعض الآراء الفلسفية في الاتجاهين، أي التي تؤكد استمرارية التصور الإنساني، وعدم اعتبار زيادة قدراته مدخلا لتغيير هذا التصور، وبين الرأي الآخر، الذي يرى أن تطور التقنيات سيدفع إلى إحداث تشويش كثيف على جملة المفاهيم والتصورات، التي ترسخت حول الحداثة والإنسان والثقافة، بل وحتى حول المادة، وأن تقنيات العلم لو بلغت حد جعل الآلة تحاكي تفكير الإنسان بصفة مناسبة، فذلك لا يمنع من أن يصير الإنسان آلة ويتغير التصور الإنساني، ويتدخل فيه أبعاد غير متصورة.

هل تقود الزيادة في الإنسان إلى تبسيط الإنسان؟

ويثير الكتاب إشكالا آخر أكثر خطورة، يتعلق بتصور قيمة الإنسان في مرحلة الإنسان المزيد، وهل يدفع تطوير قدراته وإنماؤها والزيادة في عمره وعمله وأدائه إلى الاحتفاظ بقيمته، أم سيدفع إلى تبسيط الإنسان وتشييئه.

يطرح في الجانب الأول التصور الذي يرى أن تعظيم قدرات الإنسان باستخدام التقنيات الحديثة سيدفع إلى تعظيم الوظائف التي يقوم بها، لكن ذلك يطرح إشكالا مقابلا، هو أن ذلك يدفع إلى أن يصبح الكائن البشري مجزأ إلى فروع قادرة على أن تتحول بصفة مستقلة بعضها عن بعض، مع افتراض المطاوعة الجسدية والنفسانية الكافية لتمكين الفرد من التأقلم مع هذه التحولات، ويصير الإنسان في هذه الحالة فاقدا لأي جوهر خالٍ من أي روح. 

وتميل بعض الآراء إلى تعزيز القول الذي يذهب إلى أن تشغيل التقنية لتعزيز قدرة الإنسان ستتجه به إلى التماثل مع الآلة، وأن ذلك سيخلق إشكالا عميقا، عبر عنه طوكفيل حينما أثار سؤال المواجهة بين التوق إلى المساواة والتوق إلى الحرية، بحكم أن الزيادة في القدرات عبر استثمار الأجهزة التقنية، يدفع الإنسان نحو التنميط والتماثل، كما أثار الكتاب إشكالا آخر ينتج عن تصور التمثل والتنميط، يتعلق بالأثر على الوظيفة التواصلية الإنسانية، إذ يدفع التنميط إلى التشويش على الوظيفة التواصلية، وسيضعف التفاعل لجهة تحويل التواصل الإنساني إلى وظيفة إخبارية فقط بين مرسل ومستقبل بدون أي تفاعل.

مستقبل الإنسان المزيد

يقر الكتاب أن تطور التقنيات ومحاولة استعمالها للزيادة في قدرات الإنسان لتعيد الإشكالات القديمة، ستزيدها تعقيدا، لاسيما ما يرتبط بتداعياتها الفلسفية والأخلاقية والقيمية، وأن تطور تقنيات علوم الأخبار والإعلام والشبكات الاجتماعية، والتحول الرقمي والدماغ الكوني والأشياء الذكية والتحويل الإنساني وما بعد الإنسانية، سيطرح سؤالا كبيرا يتعلق بإدماجها في الثقافة، وتحديد هوية الإنسان وماهيته، وأن الأمر بقدر ما يطرح تحديات كثيرة على تصورنا للإنساني، بقدر ما يتطلب تفكيرا جماعيا يمكن من حسن استثمار تطور التقنيات لصناعة مستقل أفضل للإنسان، دون أن يعرض جوهره وروحه الإنسانية للاختفاء.