كتب

دراسة في تشتت الإرث الثقافي الفلسطيني وإمكانية حفظه

كتاب يبحث في الإرث الفلسطيني وسبل تجميعه- (عربي21)

الكتاب: "الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع.. دراسات أولية وتطلعات مستقبلية"
المؤلف: بشار شمّوط
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية/2020

تلعب المواد الأرشيفية المخزنة للإنتاجات المرئية والمسموعة دورا أساسيا في حفظ التاريخ الثقافي للشعوب، وتوفر أرضية مهمة لفهم الكثير من السياقات الاجتماعية والسياسية في مراحل مختلفة من تطور المجتمعات، وهي إلى ذلك "أداة" مؤثرة في عملية اتخاذ القرارات السياسية في المناطق التي تشهد صراعات مثل منطقة الشرق الأوسط.. "فمنذ النكبة أصبح المحو المتعمد للذاكرة الجماعية الثقافية الفلسطينية هدفا أساسيا تعمل عليه السلطات الإسرائيلية ولا سيما العسكرية منها". 

وهذا الكتاب يسلط الضوء على مجموعة المواد المرئية والمسموعة التي تشكل إرثا ثقافيا فلسطينيا، والبحث عنها وعن أماكن وجودها، ومحاولة فهم كيف تشتت هذا الإرث خارج فلسطين وكيف أمسى في أيادي غير فلسطينية. ويركز الكتاب على طرح أسئلة مثل: كيف نشأت هذه المواد والمجموعات ومن قام بتجميعها؟ وما أهمية هذه المجموعات بالنسبة للإرث الثقافي الفلسطيني والذاكرة الجماعية الفلسطينية؟، وأين توجد هذه المواد؟، وكيف يمكن الوصول إليها والاستفادة منها؟

الباحث والمؤلف لهذا الكتاب بشار شمّوط متخصص في الأرشفة الرقمية للإرث المرئي والمسموع التي حاز درجة الدكتوراه فيها من جامعة بادربورن في ألمانيا، وهو يعمل رئيسا لقسم الأرشفة في إحدى أكبر الشركات المتخصصة في هذا المجال في ألمانيا. وهو إلى ذلك نجل إثنين من أهم الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، تمام الأكحل وغسماعيل شموط، اللذان واكبا النكبة والعديد من الأحداث المفصلية في تاريخ النضال الفلسطيني، ورغم إدراكه لأهمية الفن التشكيلي كجزء من الإرث المرئي لم يتطرق له في هذا البحث لأنه وجد في ذلك ما يشتت التركيز عن موضوع الدراسة الأساسي، وما يتطلب توسيعا للإطار المنهجي لها. 

هو لا يدعي أن بحثه هذا أجاب بالكامل عن الأسئلة التي طرحها، إنما قد يكون وضع لبنة أساسية لبحوث قادمة تناقش الموضوع ذاته، إذ لا تتوفر الكثير من الدراسات عن الإرث الثقافي المرئي والمسموع لفلسطين. وهو أمر جعله يعتمد هنا على العديد من الحوارات والمقابلات والمعلومات التي حصل عليها من أشخاص على صلة بالموضوع، فضلا عن أن الكثير من المواد المرئية والمسموعة تم نهبها من قبل الاحتلال الإسرائيلي وهي موجودة في أرشيفاته التي ما زال معظمها غير مسموح بالاطلاع عليه.
  
نهب منظم ومدروس

يذكر شمّوط أن الباحثة رونا سيلع من جامعة تل أبيب كانت الوحيدة التي وفرت معلومات قيمة حول المواد الفلسطينية المنهوبة والموجودة في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية. وهي مواد استولى عليها الجيش الإسرائيلي، من أفراد أو عائلات أو مؤسسات فلسطينية، أثناء الاعتداءات العسكرية العديدة التي شنتها قواته سواء داخل فلسطين أو خارجها. ولم تعد أسرائيل أي من هذه المواد باستثناء مرة واحدة، عندما أعادت أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني الذي نهب من بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 بوساطة فرنسة مقابل تسليمها جثث ثلاثة من جنودها الذين قتلوا في لبنان.

لم تكن عمليات النهب عشوائية بل مدروسة ومنظمة، وأول هذه العمليات وأكثرها توثيقا نهب مجموعات الكتب الخاصة والمكتبات الفلسطينية التي نفذها الجنود الإسرائيليون عقب تهجير الفلسطينيين من بيوتهم في أحياء غربي القدس سنة 1948. وتوالت بعدها عمليات السرقة والنهب للأرشيفات الفلسطينية بحسب ما تؤكد الباحثة أرييلا أزولاي التي ترى أن هذا الفعل يجب أن يفهم كعمل مستمر ومدروس يخدم مصلحة الدولة الإسرائيلية، وليس مجرد انتهاك للممتلكات والحقوق الفلسطينية. يقول شموط:" تكمن المشكلة من المنظور العلمي والبحثي.. في عدم المعرفة الدقيقة للمجموعات التي فقدت أو الموجودة في الأرشيفات الإسرائيلية. فمن ناحية لا توفر الأرشيفات.. وخصوصا تلك الخاضعة للمؤسسة العسكرية إلا القليل من المعلومات عما في حوزتها، ومن ناحية أخرى لم يكن لدى المؤسسات الفلسطينية أية سجلات أو وثائق رسمية تثبت ما كان موجودا في أرشيفاتها ومكتباتها".


قانونان إسرائيليان يوفران أرضية قانونية للاستيلاء على المواد الأرشيفية الفلسطينية، وإبقائها محظورة إلى أجل غير محدد؛ الأول هو قانون "أموال الغائبين" الذي وضع في العام 1950، ويسمح بمصادرة الأملاك الموجودة على كل أراضي دولة إسرائيل والتي لم يعد أصحابها موجودين على أراضيها، والثاني هو قانون الأرشيف المعمول به في الأرشيف العسكري التابع للجيش والذي يسمح بإبقاء أي مواد محظورة إذا كانت قد صنفت"ذات حساسية خاصة" وإذا كان الإفراج عنها قد يضر بأمن الدولة أو بالعلاقات الخارجية أو الحق في الخصوصية. يشير شمّوط إلى الاستفادة التي تحققها اسرائيل من هذه المواد، إذ تعمل مؤسساتها على دراسة مضمونها وتحليله من أجل زيادة المعرفة عن تاريخ الفلسطينيين وثقافتهم وطريقة تفكيرهم." 

 

لم تكن عمليات النهب عشوائية بل مدروسة ومنظمة، وأول هذه العمليات وأكثرها توثيقا نهب مجموعات الكتب الخاصة والمكتبات الفلسطينية التي نفذها الجنود الإسرائيليون عقب تهجير الفلسطينيين من بيوتهم في أحياء غربي القدس سنة 1948.

 


ويعتبر المحللون الإسرائيليون ان المعرفة التي يتم استنتاجها من هذه المواد ملك لهم، ويوفرونها ضمن السياق الاستعماري لتصبح المؤسسات الإسرائيلية مصدرا أساسيا للمعلومات عن فلسطين والفلسطينيين". المعلومات التي نشرتها سيلع تشير إلى أن الأرشيفات الإسرائيلية تحتفظ بكميات كبيرة من المواد المرئية والمسموعة الخاصة بفلسطين وذات صلة بثقافة الفلسطينيين وتاريخهم وأنماط حياتهم. وهي "ليست جميعها من إنتاج فلسطينيين، فهناك جزء منها صوره وأنتجه مصورون وصحافيون أجانب أو حتى إسرائيليون". وبحسب سيلع فإن الأرشيف العسكري التابع للجيش الإسرائيلي يحتفظ بكميات من المواد، كان قد بدأ بتجميعها منذ 1948،وتشمل: 38 ألف شريط أفلام، و2.7 مليون صورة فوتغرافية، و96 ألف تسجيل صوتي، و46 ألف صورة جوية وخريطة.

جهود ومبادرات

يعرض شمّوط في كتابه للجهود المبذولة في السنوات الأخيرة للحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني، والمبادرات العربية والفلسطينية الفردية والمؤسسية والرسمية والمستقلة في هذا السياق. كما يعرض أيضا لدور المتحف الفلسطيني في الحفاظ الرقمي على الإرث الثقافي المرئي والمسموع وخططه بهذا الصدد، حيث لا يقتصر هدف المتحف على تجميع هذه المواد والاحتفاظ بها فحسب، " بل الإضاءة أيضا على المجموعات والأرشيفات الأخرى المتوفرة والمهمة التي لها علاقة بالذاكرة الجماعية الفلسطينية، ثم توفير إمكان الوصول إليها عن طريق المتحف. و(بالتالي) ربط كل المجموعات والأرشيفات ببعضها البعض وتزويدها بأسس وأساليب موحدة لرقمنة المواد المتوفرة لدى كل منها من أجل إنشاء قواعد متوافقة وموحدة للبيانات الرقمية المستقبلية". 

الكتاب يقدم أيضا توثيقا لبدايات التصوير الفوتغرافي في فلسطين، وأوائل المصورين الفلسطينيين، وبدايات تصوير الأفلام السينمائية المتحركة والتسجيلات الموسيقية، والإرث الموسيقي في الوسط البرجوازي في فلسطين ماقبل 1948، والتي تقدم في مجملها صورة قوية عن النمط الحياتي لدى الطبقة الأغنى من المجتمع الفلسطيني في المدن" التي كانت قادرة على توظيف المصورين الفوتغرافيين لتنفيذ صور عائلية لها، أو طلب الموسيقيين لإحياء حفلاتها الخاصة، أو حتى قادرة على اقتناءالتقنيات الحديثة في وقتها مثل الغرامافون وجمع الاسطوانات الموسيقية" في حين أن ما هو متوفر من مواد أرشيفية عن الحياة الريفية الفلسطينية في تلك الفترة هو "في معظمه من تنفيذ مؤرخين وباحثين أجانب ممن قاموا بزيارة فلسطين بهدف الدراسة والتوثيق". 

يتوقف الكتاب أيضا عند "مصلحة الإذاعة الفلسطينية" أول إذاعة في فلسطين التي أنشأها سلطات الانتداب البريطاني في العام 1936 ودورها في التأثير المباشر آنذاك في نشر الثقافة السمعية والمساهمة في دعم التطور الموسيقي واللغوي في المجتمع الفلسطيني وسائر منطقة الشرق الأوسط.

يقدم الكتاب أيضا، إن كان بشكل مختصر، توثيقا سريعا للجيل الأول من الفنانين الفلسطينيين بعد النكبة، وبدايات الإنتاج الثقافي المرئي والمسموع في ظل النضال التحرري الوطني، حيث يتطرق لنشوء الفيلم السياسي تحت مظلة منظمة التحريرالفلسطينية، الأغنية الفلسطينية في الشتات، والأغنية السياسية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وطبيعة مساهمة الموسيقيين العرب غير الفلسطينيين في الإرث الموسيقي الفلسطيني الحديث، ويتوقف كذلك عند تأثير اتفاق أوسلو في النتاج الثقافي الفلسطيني. 

يقول شمّوط: "تضم الحركة الفلسطينية اليوم ما يزيد على 100 مخرج سينمائي فلسطيني، وأكثر من 500 فيلم أنجز بعد أوسلو(من فئات متعددة)، وأيضا العشرات من المغنين والموسيقيين المحترفين. لكن هذا النتاج كله غير محفوظ في أرشيفات رسمية، بل هو في معظمه لدى صانعي الأفلام والموسيقى، إما كمجموعات خاصة ، وإما تابعة للمؤسسات التي أنتجتها".

شموط وثق في الكتاب أيضا قوائم بالمجموعات والأرشيفات المرئية والمسموعة التي تم العثور عليها حتى الآن، وهي : أولا المجموعات المفهرسة في الأرشيفات الرسمية أو التابعة لمؤسسات أكاديمية مثل مجموعة صور صندوق استكشاف فلسطين في لندن، ومجموعة معهد غوستاف دالمان في ألمانيا، وغيرها الكثير. وثانيا مجموعات أسست كمشاريع وبمبادرات مستقة وبتمويل فردي أو خاص مثل مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية، وأرشيف مؤسسة "عرب"-بيروت. وثالثا مجموعات صغيرة وغير مفهرسة لكنها ذات أهمية مثل مجموعة عز الدين القلق للبطاقات البريدية التاريخية الفلسطينية، ومجموعة أفلام المخرجة مونيكا ماورر. ويختم شمّوط كتابه بفصل حول مبادىء التحويل والتخزين الرقمي للمواد المسموعة والمرئية.