قضايا وآراء

"تطبيع" الساعة الخامسة والعشرين

1300x600
المصريون الطيبون لديهم مثل من أمثالهم الشعبية الكثيرة يشير إلى من يفعل شيئا بعد أن يكون مر وقته وميعاده، في إشارة تختلط فيها الدهشة بالسخرية بالحسرة، فيقولون "بيفتل كعك بعد العيد". والموقف هنا يشير إلى حالة كاملة من "الغياب" عن الزمن وواقع وتفاصيل وناس الزمن، وهو ما يطرح سؤال "الوعي والإدراك" عاليا وبقوة، ويجعله ضروريا في معرفة صاحبنا هذا الذي لم يعِ ولم يدرك أن أيام العيد انتهت، لكنه مُصرّ على أن يفتل كعك العيد.

سيكون علينا أن نتأمل هذه المعاني والأفكار ونحن نتابع حفلات التطبيع المجاني التي تجرى هذه الأيام مع إسرائيل. ومما يثير الشكوك - لا الضحك - هو حالة الاحتفاء المهرجاني التي نراها تحيط بالموضوع. وسواء كان الموضوع يتعلق بالتفاهة التاريخية (المطبعون)، أم كان يتعلق بزفة انتخابية (ترامب وكوشنر)، أم يتعلق بملاحقات قضائية (نتنياهو)، إلا أننا في كل الأحوال أمام صورة مثيرة للإثارة، مدهشة للدهشة، مضحكة للأضحوكة.

لكن لماذا كل هذه الأمثال والتوصيفات والإشارات؟ لسبب بسيط جدا.. وهو أن "نهاية إسرائيل" قد اقتربت جدا، دعك من الحالة الإعلامية التي تتدفق فيها أخبار وصور "مصنّعة" معمليا لتنتج استنتاجات لا علاقة لها بالواقع وحقائق الواقع.. لأن كل هذا يتعلق فقط بالصورة وإخراج الصورة.. يتعلق بـ"الفرجة" كما يقول أديب نوبل المعروف ماريو يوسا (84 عاما)، ذلك أن الحقيقة في مكان آخر تماما.. الحقيقة عند المفكرين والكتاب والشعراء.. الحقيقة عند أهل الحقيقة.

يحكون في إسرائيل هذه الأيام حادثة طريفة حدثت لأحد الكتاب الإسرائيليين؛ الذي ذهب إلى طبيب في عيادته الخاصة، سأله الطبيب عن عمله ومهنته فأجاب باعتزاز: أنا كاتب، وفي نهاية الكشف سأله الطبيب متوددا: وماذا تكتب الآن؟ قال أيضا بكل اعتزاز: عن مستقبل إسرائيل، فضحك الطبيب وقال: آه.. إذن أنت تكتب القصة القصيرة.. إنها الحقيقة التي تتأكد كل يوم ومن باطن وأحشاء المجتمع الإسرائيلي، وهو أننا أمام أكذوبة أنجبتها خدعة اسمها "دولة إسرائيل"، ما جعل الشاعر الإسرائيلي حاييم غوري (1923- 2018م) يقول إن "كل إسرائيلي يولَد وفي داخله السكين الذي سيذبحه".

إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي مجرد وجودها - وليس أمنها فقط - مثار جدل ونقاش حتى الآن. سيقول لنا المفكر الأمريكي الأشهر نعوم تشومسكي (92 عاما) إن المجتمع الإسرائيلي لم ينتج سوى هتلرات صغيرة (جمع هتلر)، وأن هذه الدولة خطر على اليهود أنفسهم، وهي تتجه في خطى ثابتة نحو "العدم".

موضوع نهاية إسرائيل متجذر في الوجدان الصهيوني، وحتى قبل إنشاء الدولة أدرك كثير من الصهاينة أن المشروع الصهيوني مشروع مستحيل البقاء والاستمرارية، نحن أمام دولة تعيش على حافة الهاوية بين الحياة والفناء.

هذه النهاية لها أسباب وتفسيرات عدة، أهمها أن هناك حقيقة تاريخيه تسري على كل المجتمعات الاستيطانية، وهي أن المجتمعات التي استطاعت أن تبيد السكان الأصليين (مثل أمريكا وأستراليا) كتب لها البقاء، أما تلك التي أخفقت في إبادة السكان الأصليين (الممالك الصليبية والجزائر وجنوب أفريقيا) فكان مصيرها الزوال والنهاية.

ويدرك الإسرائيليون أنهم ينتمون للنوع الثاني، والمفارقة أنهم يعيشون على نفس الأرض التي أقيمت فيها الممالك الصليبية التي تذكرهم كل يوم بهذه النهاية.

أستاذي وأستاذ كل الأجيال، د. عبد الوهاب المسيرى رحمه الله، ذلك العلامة الذي مرت من تحت قلمه كل الحكايات عن اليهود والدين اليهودي والصهيونية.. ذكر أن هناك دراسات إسرائيليه لا تنتهي عن المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية ومشكلات الاستيطان والهجرة التي قامت عليها الممالك الصليبية التي بادت، وعن العلاقة بين هذه المجتمعات الإحلالية وبين الوطن الأصلي المساند لها، في محاوله - تبدو يائسة - لفهم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت بها.

الكاتب الإسرائيلي الشهير يوري أفنيري (1923- 2018م) كتب عام 1983 بعد غزو بيروت "ماذا ستكون النهاية؟"، وذكر أن الممالك الصليبية احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية وأنها كانت قادرة على كل شيء، ومع ذلك فقد ذهبت مع الريح.

أبراهام بورغ (65 عاما)، الكاتب والسياسي الإسرائيلي ونجل يوسف بورغ أحد المؤسسين الأوائل للدولة الإسرائيلية، قال إن نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا، جيلنا سيكون آخر جيل صهيوني. وذكر في كتابه "أن تنتصر على هتلر": "المجتمع الإسرائيلي الآن يفترسه الذعر.. وغالبيه الإسرائيليين يسألون أبناءهم أين يتوقعون أن يعيشوا خلال الـ25 عاما المقبلة، ويُصدم الآباء حين يجيبهم الأبناء بأنهم لا يعرفون..".

لكن توماس فريدمان (67 عاما)، الصحفي المعروف، له رأي آخر مخالف لما يقوله التاريخ وما يقوله المفكرون وما تقوله الشعوب!! فيقول معلقا على اتفاقات التطبيع الأخيرة: ما حدث "زلزال جيوسياسي" في الشرق الأوسط، إنه حدث "ضخم".. مستخدما تغريدة ترامب في وصفه لهذه الاتفاقات بـ"الاختراق الضخم". ويضيف: "الماضي لا يتعين عليه دائما دفن المستقبل، وإن الكارهين والمفرقين لا يتعين عليهم دائما الفوز!". فريدمان على فكرة من عشاق نوع من التفكير اسمه "التفكير اللفظي"، حيث الخلل في توصيف الأحداث والخلل في توظيف الألفاظ.

لكن كل هذا ببساطة لا يغير من الحقيقة شيئا.. لأن الحقيقة هي أن إسرائيل "لحظة قصيرة" في التاريخ اليهودي، كما قال الكاتب والروائي الإسرائيلي يهو شواع (84 عاما).

twitter.com/helhamamy