مقابلات

حفيدة رفاعة الطهطاوي لـ"عربي21": هذا أخطر ما تواجهه هويتنا

حفيدة رفاعة الطهطاوي أكدت أنه كان مُتمسكا طوال حياته بالثقافة العربية الإسلامية- عربي21

* أخطر ما تتعرض له هويتنا الآن هو قطيعتها مع عصرها ونقل منجزات وأفكار الثقافة الغربية دون استيعابها بشكل نقدي

 

سؤال الهوية كان جزءا لا يتجزأ من سؤال النهضة.. وأطالب بإطلاق حرية الإبداع بلا قيود

 

* أدعو لقراءة عقلانية نقدية لتراثنا وواقعنا والانفتاح على الثقافات الأخرى من خلال الحوار الخلّاق معها

 

* رفاعة كان يأخذ من الغرب علومه ومعارفه لكنه كان حريصا على ألا يتعارض ذلك مع تراثه الديني والثقافي

 

* مشروع رفاعة واجه عائقين أساسيين تمثلا في كل من السلطتين السياسية والدينية مُمثلة في الأزهر

 

* المشكلة الأساسية التي أعاقت انطلاق تجربة "رفاعة" كانت عدم ارتكاز مشروعه على قوى اجتماعية

 

* "عباس الأول" انقلب على كل منجزات وسياسات جده التحديثية ونفى "رفاعة" إلى السودان

 

* العلاقة بين المثقف والسلطات العربية الاستبدادية الحالية هي علاقة استبعاد وتهميش 


قالت حفيدة رفاعة رافع الطهطاوي، أحد رواد النهضة العربية والإصلاح الفكري في عهد محمد علي، إن "أخطر ما تتعرض له هويتنا (العربية والإسلامية) الآن هو قطيعتها مع عصرها، أو استنساخها رؤية ماضوية وفرضها على الحاضر، باسم الأصالة، فضلا عن نقل منجزات وأفكار وقيم الثقافة الغربية دون استيعابها بشكل نقدي باسم المعاصرة" .

ودعت الأكاديمية المصرية، ماجدة رفاعة، في الحلقة الثانية من مقابلتها الخاصة مع "عربي21"، إلى "وجود قراءة عقلانية نقدية لتراثنا وواقعنا، والانفتاح على الثقافات الأخرى، ليس فقط من خلال استيراد منجزاتها التكنولوجية، وأفكارها وقيمها، ولكن من خلال الحوار الخلّاق معها، واستيعاب الأسس العلمية لهذه المنجزات، وهو ما ينتج شكلا جديدا للهوية يمثل انقطاعا لما قبله، وهو في نفس الوقت حاملا مكوناته".

وشدّدت الأكاديمية المصرية، التي تقيم حاليا بالعاصمة الفرنسية باريس، على ضرورة "احترام حرية الاختلاف، وإطلاق حرية الإبداع بلا قيود"، مؤكدة على أهمية "التشخيص الموضوعي لواقعنا الاجتماعي المحلي والعالمي".

وفي الوقت الذي أكدت فيه أن "مشروع رفاعة للنهضة واجه عائقين أساسيين تمثلا في كل من السلطتين السياسية والدينية مُمثلة في الأزهر"، إلا أنها أوضحت أن "المشكلة الأساسية كانت دائما في عدم ارتكاز مشروع رفاعة على قوى اجتماعية، على عكس ما حدث في أواخر القرن الثامن عشر، من ظهور إرهاصات نهضوية أصيلة، نتيجة لتغيرات اجتماعية واقتصادية داخلية".

ورأت حفيدة الطهطاوي أن "العلاقة بين المثقف والسلطات الاستبدادية العربية هي علاقة استبعاد وتهميش. فالسلطة في وطننا العربي كسرت كل الجسور بينها وبين المثقف العضوي المهموم بقضايا وطنه وشعبه".

وتاليا نص الحلقة الثانية من المقابلة الخاصة:


"سؤال الهوية"

 

رفاعة الطهطاوي كان متمسكا بعروبته وثقافته العربية الإسلامية.. فكيف ترون قضية الاغتراب وأزمة الهوية في الوقت الراهن؟


أتفق معك فيما قلته بأن رفاعة كان مُتمسكا، طوال حياته بالثقافة العربية الإسلامية، ومن هنا كان سؤاله المستمر والملح: ماذا نأخذ من الغرب؟، وكيف نوفق بين ما نأخذه وبين أصول العقيدة الإسلامية؟، وهي أسئلة تكشف عن خوفه وتوجسه من أن يفقد هويته العربية الإسلامية، فهو يريد أن يأخذ من الغرب علومه ومعارفه التي حققت تقدم حضاري في بلدانها، من أجل أن ينهض بوطنه مصر، ولكنه في نفس الوقت حريص على ألا يتعارض ما يأخذه من معارف مع تراثه الديني والثقافي.

إذن فسؤال الهوية كان جزءا لا يتجزأ من سؤال النهضة، أي سؤال اللحاق الذي مازال يتردد حتى يومنا هذا.

إن سؤال الهوية يحيل إلى سؤال الكينونة مَن أنا..؟، مَن أكون..؟، وهذا السؤال عادة ما يكون تعبيرا عن أزمة "الأنا" الوطنية.. "الأنا" الحضارية. ففي مراحل النهوض الوطني والحضاري، يختفي هذا السؤال، لأن "الأنا" تكون في حالة اكتمال.

"الأنا" فردية كانت أو جماعية هي كيان تاريخي يتغير بتغير الظروف الاجتماعية والثقافية، ولكنها في نفس الوقت حاملة لذاكرة تاريخية خاصة بها تميزها عن غيرها من "الأنوات" الثقافية. بمعنى أن المجتمعات في كل مرحلة تاريخية تُشكّل هويتها من خلال الممارسات الاجتماعية - سياسية، واقتصادية، وثقافية- بما تتضمنه من محددات حاكمة لهذه الممارسات، من طبيعة السلطة المتغلغلة في النسيج الاجتماعي، والمنجزات المادية المتحققة، وطريقة الحياة المُتعارف عليها، واللغة التي نتعرف بها على أنفسنا وعلى الأخرين، والأفكار والقيم والمعايير السائدة، والعقائد والعادات المتوارثة، إلخ. حيث تتشكل الهوية من كل هذه العوامل- المنتمية للماضي والحاضر، وتصورنا للمستقبل- في تفاعلها وتراكبها، وتداخلها، مُنتجة شكلا جديدا للهوية يمثل انقطاعا لما قبله، وهو في نفس الوقت حاملا مكوناته، فالهوية هي تعبير عن حالة من الاستمرارية والانقطاع.

هل أنتِ مع الاندماج والذوبان الكامل في المجتمعات الغربية أم المحافظة على الهوية العربية الإسلامية؟

 

سؤال الهوية دائما ما يكون سؤالا إيجابيا، عندما لا يتوقف عند سؤال مَن أنا؟، ولكن يتعداه ليتساءل: كيف أكون متفاعلا مع واقعي وعصري؟


ولا يعني ذلك أن نتجاهل تراثنا أو أن نتماهى في الثقافة الغربية حتى نكون عصريين، ولكن يعني أولا، التمثل والاستيعاب العقلاني النقدي لتراثنا. وثانيا، التشخيص الموضوعي لواقعنا الاجتماعي المحلي والعالمي، على هذه الأرضية من وعي "الأنا" بذاتها، -ماضيها وحاضرها-، تستطيع تطوير واقعها وأن تتطور فيه، راسمة ملامح "الأنا" المستقبلية.

إن أخطر ما تتعرض له هويتنا في اللحظة الحاضرة، هو من جانب، قطيعتها مع عصرها، أو استنساخها رؤية ماضوية وفرضها على الحاضر، باسم الأصالة، ومن جانب أخر، نقل منجزات وأفكار وقيم الثقافة الغربية دون استيعابها بشكل نقدي باسم المعاصرة .

إن إجابتنا على سؤال الهوية يجب أن تبدأ من تحررنا السياسي والثقافي من السلطات القمعية الاستبدادية في الداخل، ومن هيمنة النظام الرأسمالي في صورته الجديدة (العولمة)، على مقدرتنا المادية والمعنوية، وذلك لن يتحقق إلا من خلال مشروع نهضوي عربي جديدة، تتحدد ملامحه من خلال القراءة العقلانية النقدية لتراثنا وواقعنا، والانفتاح على الثقافات الأخرى، ليس فقط من خلال استيراد منجزاتها التكنولوجية، وأفكارها وقيمها، ولكن من خلال الحوار الخلاّق معها، واستيعاب الأسس العلمية لهذه المنجزات، والقراءة النقدية لأفكارها وقيمها، في مناخ يكفل احترام حرية الاختلاف، وإطلاق حرية الإبداع بلا قيود.

 

"علاقة المثقف بالسلطة"

 

كيف تنظرين إلى علاقة المثقف بالسلطة اليوم؟

 

إن السؤال حول علاقة المثقف بالسلطة، هو دائما سؤالا إشكاليا، ذلك أن الثقافة بمفهومها الوسع هي رؤية كلية نقدية للواقع المعاش من أجل تجاوزه، واستشراف بديل مستقبلي. أما السلطة فتسعى على العكس من الثقافة إلى تثبيت الوضع القائم، المعبر عن مصالحها (طبقة كانت أو مجموعة حاكمة)، وإعادة إنتاج الأوضاع القائمة.

وبناء على ذلك، فهناك اختلاف في زاوية النظر بين المثقف والسلطة، فإذا كان الأول ينظر للواقع نظرة نقدية من أجل تغييره والانطلاق نحو المستقبل، فالسلطة تنظر للواقع من أجل تثبيته، وتثبيت شرعيتها فيه. على أننا نجد من ناحية أخرى أن لكل سلطة ثقافتها المعبرة عن مصالحها والمروجة لأيديولوجيتها، كما أن كل ثقافة تستند إلى سلطة تدعمها وتسعى لأن تسود في المجتمع، وهكذا فبينما نجد ترابطا عضويا بين الثقافة والسلطة نجد أيضا قدر من المسافة والاختلاف في الطبيعة والتوجه.

أما في الحالة العربية، فالعلاقة بين المثقف والسلطات الاستبدادية الحالية، هي علاقة استبعاد وتهميش. فالسلطة في وطننا العربي كسرت كل الجسور بينها وبين المثقف العضوي - بحسب تعبير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي -، أي ذلك المثقف المهموم بقضايا وطنه وشعبه.

وكيف تقيمين العلاقة بين المثقف والسلطة انطلاقا من علاقة جدك بالسلطة بداية من محمد علي وصولا للخديوي إسماعيل مرورا بكل من عباس الأول، والخديوي سعيد؟


لم يكن رفاعة ذلك المثقف الحامل أو المروج لأيديولوجية السلطة، لكنه كان مثقفا صاحب مشروع في الواقع تتحدد معالمه بدءا من المشكلات التي يطرحها عليه واقعة. فعلاقة رفاعة بنظم الحكم المختلفة التي عاصرها من محمد علي إلى الخديوي إسماعيل مرورا بعباس، وسعيد، تتحدد من خلال التقاء أو افتراق مشروعة التحديثي مع السلطة.

ويمكن أن نتبين هذا في علاقته بمحمد علي، فقد ارتكز كل من مشروع محمد علي، ورفاعة على نفس المرتكزات، وهي: بناء دولة حديثة، وتطوير الأزهر، والانفتاح على الحضارة الغربية، ولكن اختلف كل منهما في فهم طبيعة ودور هذه المرتكزات في المشروع التحديثي.

كان هدف محمد علي من تحديث الدولة، هو تحقيق طموحاته التوسعية من أجل بناء إمبراطورية كبيرة، ولكنه كان حريصا ألا يمتد هذا التحديث ليشمل حياة الناس، خوفا على سلطته، كما تم ذكره. في حين أن رفاعة رأى في تحديث الدولة تحقيقا لحلمه في تحديث مصر ووصلها بركب الحضارة، لكنه رأى أيضا لا مانع أن يكون محمد علي ذلك الحاكم الأوتوقراطي الذي يجمع كل السلطات في يده، طالما يستخدم هذه السلطات من أجل تحديث مصر والنهوض بها. رغم أنه أولى فكرة الديمقراطية، وتقيد سلطة الحاكم بالدستور اهتماما كبيرا في كتاباته، ولكنه كان يدرك الحدود التي يمكن أن يتحرك فيها.

أما الأزهر بالنسبة لمحمد علي فكان أداة يرتكز عليها لاكتساب شرعيته في مرحلة أولى، ولتبرير التحولات الاجتماعية الاقتصادية التي أحدثها في مرحلة ثانية. ولكن الأزهر كان بالنسبة لرفاعة يتجاوز قيمته العلمية ودوره التعليمي الكبير، فهو رمزا للهوية العربية الإسلامية، وهو أيضا وعاء للذاكرة الوطنية.

ورغم اختلاف محمد علي ورفاعة في فهم دور الأزهر، إلا أن كلاهما رأى ضرورة تطويره.

وكان المرتكز الثالث في مشروع التحديث، هو الانفتاح على الحضارة الأوروبية، التي انحصر اهتمام محمد على بها في حدود نقل العلوم والمعارف والتكنولوجيا، من أجل تحديث الجيش والدولة، بينما مثل الانفتاح على الحضارة الأوروبية بالنسبة لرفاعة، النافذة الذي يمكن عبرها النهوض بمصر، والخروج بها من ظلام التخلف إلى نور الحداثة.

فكما نرى، رغم اختلاف الرجلين في الهدف من وراء المشروع التحديثي، إلا أن كانت هناك إمكانية لمد الجسور بينهما، فلقد اتجهت كل جهود رفاعة العلمية والعملية من أجل تغيير واقع بلاده والنهوض بها، وكان يدرك أن لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا من خلال سلطة الدولة. ومحمد علي كان يقود حركه تحديثية واسعة فرأى كل منهما في الآخر داعما لمشروعه. وينطبق نفس الأمر على علاقته بالخديوي إسماعيل، ومن قبله الخديوي سعيد وإن تكن بدرجة أقل، ولكن يختلف الأمر تماما في علاقته بعباس الأول الذي تراجع عن كل إنجازات جده التحديثية، والذي كان يعلم تماما أنه لا يمكن أن يجعل من رفاعة داعما لسلطته فنفاه إلى السودان.

"معوقات مشروع رفاعة للنهضة"

 

ما أبرز المعوقات التي أعاقت انطلاق تجربة رفاعة الطهطاوي ومشروعه للنهضة؟

 

لقد واجه مشروع رفاعة عائقين أساسيين تمثلا في كل من السلطتين السياسية والدينية مُمثلة في الأزهر، اللتان شكّلتا حدود هذه التجربة وإمكانيات تطورها. ويمكن تفسير ذلك بالآتي:

أولا، أن مشروع رفاعة نما وتحقق في ارتباطه بدولة محمد علي، ولم يكن يستند على شرائح وطبقات اجتماعية، مما أصاب تجربة رفاعة بالهشاشة، وتأثرت صعودا وهبوطا بتغيرات سلطة الدولة، فمحمد علي الذي أرسل رفاعة إلى باريس لينقل ويترجم العلوم والمعارف التي تحتاجها عملية تحديث الدولة والجيش، احتضن مشروع رفاعة وساعده على تنفيذه.

ومع مجيء عباس الأول 1849 - 1854، الذي انقلب على كل منجزات وسياسات جده التحديثية، ونفى رفاعة إلى السودان، انتكست هذه التجربة وتوقفت، وبمجيء الخديوي سعيد 1854 - 1863، عاد رفاعة من منفاه، وأعاد من جديد فتح المؤسسات الثقافية والتربوية، التي تأسست في عهد محمد على.

وفي الفترة التي عاصر فيها رفاعة الخديوي إسماعيل والممتدة من 1863 - حتى وفاته 1873، فتحت أمامه إمكانات واسعة لمواصلة مشروعه في مجالات التربية والتعليم والترجمة. وبذلك ظل مشروع رفاعة دائما محدودا بحدود الفضاء الذي تسمح به السلطة.

أما العائق الثاني، فكان سلطة الأزهر الشريف، مُمثلة في بعض علماؤه الذين انغلقوا على أنفسهم، وقاموا بإعادة ترديد بعض المعارف الفقهية وعمل ملخصات لها، وحواش على الملخصات، وشروح للحواشي، دون إضافة ذات قيمة فكرية أصيلة. 

وقد رفض هؤلاء العلماء دعوة رفاعة لتجديد مناهج الأزهر، والانفتاح على العلوم العصرية - التي رأى رفاعة أنها جعلت "بلاد الإفرنج تحوز أقصى مراتب البراعة - وكانت حجتهم في ذلك أن هذه العلوم مستوردة. فأوضح رفاعة أن العلم والمعرفة لا وطن له، بل أن هذه العلوم والمعارف التي قامت عليها النهضة الأوروبية، إنما هي موروثات الحضارة العربية الإسلامية التي أخذها الأوروبيون وطوروها، فيجب علينا بالتالي أن نستفيد منها، من أجل بعث الحضارة العربية الإسلامية من جديد. ولكن هذا الجدل الفكري لم يصل لحد الصدام العنيف بين الجديد الذي يحمله رفاعة، والتيار المحافظ في الأزهر.

ويتبين لنا في كلتا الحالتين، سواء في علاقة رفاعة مع السلطة أو في صراعه الفكري مع علماء الأزهر، أن المشكلة الأساسية كانت دائما - في تقديري - في عدم ارتكاز مشروع رفاعة للنهضة على قوى اجتماعية، على عكس ما حدث في أواخر القرن الثامن عشر، من ظهور إرهاصات نهضوية أصيلة، نتيجة لتغيرات اجتماعية، اقتصادية داخلية، أفرزت قواها الاجتماعية الحاملة لأفكار وقيم جديدة، كما سبق الإشارة.

وبهذا تشكلت حدود وأفق مشروع رفاعة ذلك المثقف الوطني الفرد، بين مطرقة السلطة الذي تبنت مشروعه، ورأت فيه تدعيما لقوتها، ولكن لم تسمح لهذا المشروع التحديثي أن يتجذر مجتمعيا، وسندان الأزهر الذي رأى في هذه الدعوة للتجديد خلخلة للأرضية المحافظة التي يقف عليها.

 

الحلقة الأولى للمقابلة: حفيدة رفاعة الطهطاوي تدعو العرب لتدشين منطلق نهضوي جديد