كتاب عربي 21

شرق أوسط جديد لأحفاد إبراهيم

1300x600
عندما صك شمعون بيريز (من قوى اليسار الإسرائيلي) عقب توقيع اتفاق أوسلو؛ مصطلح "الشرق الأوسط الجديد"، في كتاب حمل ذات العنوان، لم يدر بخلده أن فكرته الرومانسية الحالمة سوف تتحقق عن طريق قوى اليمين بقيادة نتنياهو، والقيادات اليمينية العربية، برعاية اليمين الأمريكي بقيادة دونالد ترامب.

فقد حلم بيريز بسلام رسمي بين إسرائيل ودول المنطقة، بعد إحراز تقدم في موضوع المفاوضات مع الفلسطينيين، لتجسير التطبيع مع الدول العربية المحيطة. وتخيل بيريز شرق أوسط جديدا تقوده إسرائيل قائلاً: "لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن". لكن اتفاق أوسلو انهار دون التوصل لاتفاق سلام ينتهي بحل الدولتين.

وللمفارقة بات التطبيع العربي مع إسرائيل ممكناً دون المرور بفلسطين بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي، مع قناعة الدكتاتوريات العربية بإعادة تعريف المخاطر في المنطقة عبر مداخل حرب الإرهاب، واختزاله بالمنظمات الإسلامية الجهادية السنية والجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية، وتحول المستعمرة الاستيطانية إلى صديق وشريك في حرب الإرهاب.

إن اتفاقية التطبيع التي رعتها الولايات المتحدة بين إسرائيل والإمارات في 13 من آب/ أغسطس الماضي، باسم "اتفاق أبراهام"، نتاج سلسلة من الجهود الأمريكية لجعل إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة. واستدعاء النبي إبراهيم في مشروع الشرق الأوسط الجديد، مزيج غرائبي بين الديني والسياسي، بالإحالة إلى تاريخ ديني متخيل لتبرير مشروع سياسي استعماري.

وبعيداً عن ترهات التسمية الترامبية للاتفاق الذي وُصف بالتاريخي لإضفاء هالة من عظمة الإنجاز، فقد اعتدنا على استحضار اسم إبراهيم في كافة اتفاقات السلام السابقة، من كامب ديفيد إلى أوسلو فوادي عربة، للدلالة على أن الخلاف في المنطقة بين إخوة ينتمون إلى ديانات أب مشترك، للتعمية على واقع كيان كولونيالي استعماري عنصري قام على الإرهاب والتطهير العرقي للفلسطينيين، بدعم من الكولونيالية البريطانية وصمد بمساندة الإمبريالية الأمريكيةـ، وازدهر في ظل الدكتاتوريات العربية.

بعيداً عن الأساطير التاريخية والخرافات الحداثية لشرق أوسط جديد لأحفاد إيراهيم، فقد مثل الشرق الأوسط أحد الانشغالات الأساسية في تصورات الأمن القومي الأمريكي. وقد دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد إدارة الرئيس ريغان على إصدار تقرير إلى الكونجرس حول استراتيجية الأمن القومي منذ عام 1986.

وتتلخص رؤية الولايات المتحدة للمنطقة في كافة الوثائق بالحفاظ على "أمن واستقرار" المنطقة لضمان إمدادات "النفط"، وحماية أمن المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في فلسطين، والالتزام بدعم الأنظمة الاستبدادية، وحماية تلك المصالح من خطر "الإرهاب الإسلامي".

وقد حدث تحول عارض عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، بطرح مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي نظرت له وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس خلال حكم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، من خلال اعتبار الديمقراطية الترياق للتخلص من العنف والإرهاب في المنطقة، الذي يحول دون إدماج إسرائيل في نسيج المنطقة. وسرعان ما تراجعت أمريكا عن مشروع المحافظين الجدد، بعد انتكاسة مشروع احتلال العراق 2003، وهزيمتها وانسحابها نهاية 2010.

رغم الهزيمة المنكرة للولايات المتحدة في العراق، إلا أنها استثمرت في البذور السامة التي غرستها هناك، فقد خلّص الاحتلال الأمريكي إيران من عدوها القريب، ومكنها من السيطرة على فضاء جغرافي ممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، في ذات الوقت الذي سقت فيه بذور الإرهاب والطائفية في المنطقة، بحيث أصبحت كافة الشرور التي زرعتها في المنطقة ذريعة لتحقيق شرق أوسط جديد تقوده حليفتها الاستراتيجية "إسرائيل"، في سياق التحول الجيوستراتيجي الأمريكي نحو آسيا المحيط الهادي، واعتماد مبدأ إعادة التوازن بعد أن تراجعت أهمية المنطقة وصعدت قوة الصين.

في هذا السياق، كانت الأنظمة الدكتاتورية العربية التي انقلبت على ثورات الربيع العربي 2011، تواجه صعود المد الإيراني الشيعي، وتنامي الجهادية العربية السنية، حيث فقدت وزنها السياسي واختلت منظوراتها الاستراتيجية، وباتت المستعمرة الاستيطانية الصهيونية شريكة للأنظمة الدكتاتورية العربية، في مواجهة الجمهورية الإيرانية والمنظمات الجهادية، إضافة إلى الدولة التركية، ومع وصول دونالد ترامب أصبح الطريق ممهداً للتطبيع عبر "صفقة القرن".

ففي وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها ترامب في 18 ديسمبر 2017، جاء: "على مدار عقود كان الحديث عن أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو المحور الأساسي الذي منع تحقيق السلام في المنطقة، إلا أن اليوم يتضح أن التطرف الإرهابي الإسلامي الآتي من إيران قادنا لندرك أن إسرائيل ليست مصدرا للنزاع في الشرق الأوسط، وأن دولا أظهرت إمكانيات التعاون المشترك مع إسرائيل لمواجهة التهديدات الإيرانية"، وأن "الشركاء سيعملون على محاربة الأيديولوجيا المتطرفة، وسيدعون الزعماء في منطقة الشرق الأوسط للعمل المشترك لمحاربة التطرف الإسلامي والعنف".

حسب المنظورات الأمريكية- الإسرائيلية، فإن البنية التحتية لمشروع "صفقة القرن" باتت مهيئة لإعادة بناء الشرق الأوسط عبر تصفية القضية الفلسطنية، وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية من خلال تأسيس تحالف أمريكي عربي إسرائيلي (ناتو عربي)، تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك أختزل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".

إذ يمثل مشروع التحالف الأمريكي الذي يحمل مسمّى "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي (ميسا)" خطوة إلى الأمام من خلال ربط الأمن العسكري بالأمنين السياسي والاقتصادي، وهو يخدم الأهداف الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، التي تتلخص باستهداف إيران وتقليص الوجود الإقليمي الأمريكي من دون السماح للصين أو روسيا بحصد النفوذ.

وقد كُشف النقاب للمرة الأولى عن تحالف "ميسا" خلال زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية في أيار/ مايو 2017، حيث نص "إعلان الرياض" على أن التحالف "سيساهم في تحقيق السلام والأمن في المنطقة والعالم"، ويشمل التحالف دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، والكويت، وعُمان، وقطر، والسعودية والإمارات العربية المتحدة)، بالإضافة إلى مصر والأردن والولايات المتحدة، وتشارك فيه إسرائيل بصورة غير مباشرة. وكانت فكرته الأساسية تدور حول الأمن والدفاع، لكنها توسعت لاحقا بإضافة مجالات اقتصادية وسياسية للمشروع، في إطار مشروع "صفقة القرن".

يقع مشروع شرق أوسط جديد لأحفاد إبراهيم تقوده إسرائيل، في صلب مبدأ إعادة التوازن الأمريكي بالتوجه نحو آسيا المحيط الهادي، الذي طرحته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وليس من اختراع دونالد ترامب في استراتيجية الأمن القومي للعام 2017، واستراتيجية الدفاع القومي العام 2018، فقد عبر كلاهما عن رغبة في خفض التموضع الأمني الأمريكي في الشرق الأوسط، إذ تدعو استراتيجية الدفاع لإدارة ترامب إلى توسيع آليات التشاور الإقليمي وتعميق قابلية العمل البَيني لتقاسم أعباء الدفاع عن حلفاء ومصالح أمريكا حول العالم. وكما عبر ترامب مراراً، فمن الآن وصاعداً سيكون على الدول الخليجية أن تدفع أكثر لتأمين نفسها، بالإضافة إلى"تعويض" الولايات المتحدة عن كلفة الدفاع عنها طيلة العقود السابقة. وقد طلبت إدارة ترامب من البلدان العربية، بقيادة السعودية، أن تواصل ضبط أسعار النفط وأن تدعم السياسات الأمريكية ضد روسيا والصين في مقابل الرعاية الأمريكية لمشروع التحالف الجديد.

خلاصة القول أن الترويج لشرق أوسط جديد لأبناء إبراهيم تقوده إسرائيل برعاية أمريكية، بالتطبيع مع أنظمة عربية دكتاتورية فاقدة للشرعية ومنتهية الصلاحية، لطمس حقيقة الاحتلال الكولونيالي للأراضي الفلسطينية ومحو واقع التطهير العرقي للشعب الفلسطيني على يد العصابات الصهيونية الإرهابية؛ يستند إلى مخيلة سياسية جامحة تضطرب فيها الخرافات وتعج بالأساطير.

ومن غرائب المفارقات في تحالف الشرق الأوسط الجديد أنه جاء بذريعة مواجهة "الإرهاب"، الذي هو نتاج الثمار السامة للإمبريالية والصهيونية والدكتاتورية، ولذلك فإن ما يحدث في المنطقة لا يعدو عن كونه وصفة مضمونة لإغراق المنطقة في حلقة مفرغة من العنف والفوضى.

twitter.com/hasanabuhanya