قضايا وآراء

الحكم المبستر في قضية الحريري

1300x600
يوم اغتيال رفيق الحريري (14 شباط/ فبراير 2005) كان لبنان أسير تجاذبات سياسية، إقليمية ودولية، وصراع مشاريع جيوسياسية معلنة. وكان الحريري محسوبا على واحدة من تلك المشاريع، ومن اغتاله كان يحتسب فعلته على أنه هدف في مرمى الفريق الآخر وضربة للمشروع المنافس.

ربما لم يكن المشروع المقابل قد تبلور بشكل نهائي، وهو لم يتبلور حتى هذه اللحظة، وإن كان قد اتخذ تعبيرات معينة في مراحل مختلفة ، لكن مشروع ما يسمى" المقاومة والممانعة" أو مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة، كانت قد اكتملت أركانه، ونضجت وتوضحت أهدافه وقياداته واستراتيجيته، وحجم الموارد المرصودة للمشروع.

تمثلت أهم اهداف هذا المشروع بمنع صعود شخصيات يمكن أن يكون لها تأثير مهم، وتحديداً في لبنان والعراق، على اعتبار أن نظام الأسد يتكفل بهذه المهمة في سوريا، والهدف الأبعد من وراء ذلك عدم إعطاء الفرصة للمجتمعات السنية في هذه البلدان للنهوض ومواجهة النفوذ الإيراني الذي بدأ يترسخ بقوّة في المنطقة.

والبديل من ذلك، تصعيد شخصيات سنية من الدرجة الثانية، همها الوصول للسلطة، ولا حيثية اجتماعية لها، فضلاً عن كونها فاقدة للكاريزما، ويفضل أن تكون فاسدة، وإن لم تكن كذلك فيتوجب إفسادها، لتكريس إحباط المجتمعات السنية، وللقول إن رجال "المقاومة" هم أشرف الناس وأكثرهم نقاء وصدقاً، وبالاستفادة من قدرة حسن نصر الله الخطابية، هم أيضاً الأكثر كاريزما.

قد لا تكون هذه معطيات كافية بنظر المحكمة الدولية، لخلوها من دلائل تقنية، وأنها مجرد تحليلات سياسية لا تقدم ولا تؤخر في أحكام القوانين، لكن ماذا عن العملية التي أودت بحياة الحريري؟ فالرجل لم يقتل بمسدس كاتم للصوت يستخدمه شخص واحد، بل هي عملية معقدة احتاجت لإمدادات لوجستية وتخطيط استخبارتي معقّد، ويكشف عن ذلك حجم الانفجار الذي هز بيروت يومها.

ثم ما تبع ذلك من سلسلة اغتيالات ستطاول العديد من الشخصيات، تبعاً لأدوراهم ومواقفهم ومدى تجرؤهم على المس بهيمنة حزب الله والنظام السوري، ليسقط ضحية هذه الاغتيالات؛ سمير قصير، أحد أكثر الصحفيين جمهوراً وقراء في ذلك الحين، وجورج حاوي، السياسي المعروف، ووسام عيد، ضابط الأمن الذي كشف هويات المشاركين في الاغتيال وارتباطهم بحزب الله، وغيرهم الكثير من الضحايا.

أنتجت هذه العملية تحولاً في بيئة الصراع لصالح مشروع إيران في المنطقة، إذ أزاحت من طريق هذا المشروع من كان يعتقد أصحابه أنهم عثرة في طريقه، وليكملوا تحقيق أهدافهم في 7 أيار/ مايو 2008، عبر اجتياح بيروت وإخضاع جميع مكوناتها وأحزابها وشخصياتها لسلطة المشروع الإيراني في لبنان والمنطقة.

الملفت في الأمر، أن قطار المشروع الإيراني الذي بدأ مسيرته في دهس المشرق العربي وشعوبه، انطلق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدمير إمكانيات البلد الذي طالما تم تصنيفه على أنه الأخطر على إسرائيل ومشروعها، وذلك حسب التقييمات الإسرائيلية والأمريكية. والملفت أن هذا القطار سار وفق خطة دقيقة، دون أن يتأثر لا بمحاكم دولية ولا بقرارات صادرة عن مجلس الأمن، ولا سواها من التهديد والوعيد!

في سوريا، ستجري تصفية كل من له علاقة بملف الحريري، بهدوء وبدون ضجيج، حيث ستتم تصفية غازي كنعان، الذي كان يوصف بأنه "حاكم لبنان الفعلي"، وخليفته رستم غزالي، وجامع جامع، رئيس فرع المخابرات السورية في لبنان، حتى مصطفى بدر الدين، القيادي من حزب الله المتهم بجريمة اغتيال الحريري، قتل في سوريا!

هل لم تكن المحكمة على اطلاع على كل هذه الحيثيات وسواها لتكتشف العلاقة بين اغتيال الحريري وكل من حزب الله ونظام الأسد؟ ثم ماذا يعني اتهام شخص يدعى سليم عياش؛ بارتكاب جريمة أو جرائم شكّلت تحولاً في مسار المنطقة وحطمت مجتمعات وكرست نفوذاً إقليمياً لدولة محدّدة؟

حسناً، يحصل أن يتسبّب فعل فردي بتحولات كبرى، كمثال الصربي غافريلو برينسيب الذي اغتال ولي عهد النمسا، الأرشيدوق فرانز فرديناند، وتسببت فعلته في إشعال الحرب العالمية الأولى، لكن في الحالة اللبنانية، الأمر مختلف عن ذلك، وبصمات حزب الله والنظام السوري واضحة بشكل جلي.

يبدو أن هذا النوع من المحاكم هو مصلحة لجميع الأطراف، وخاصة إيران وأمريكا وإسرائيل وروسيا، فهي لا توسّع اتهاماتها ولا تربطها بالسياسة ولا تدين منظمات وأنظمة وحكومات، ومَن مِن هذه الأطراف لم يرتكب من الجرائم ما يفوق الوصف، وخاصة على أجساد أهل المشرق العربي؟

twitter.com/ghazidahman1