أخبار ثقافية

عن إرث سمير الإسكندراني (1938- 2020)

توفي الفنان المصري سمير الإسكندراني عن عمر يناهز الـ82 عاما بعد صراع مع المرض

فقط أصحاب البصمات الاستثنائية في وعينا الجَمعيّ هم مَن يُغرون فنّاني التقليد الكوميديين بتقليدِهم، وذلك أنهم من ناحيةٍ يمثّلون موضوعًا واضحًا ملموسًا قابلاً للتقليد، ومن ناحيةٍ أخرى يؤتي التقليدُ المُتقَن لحضورِهم على المسرح ثمرةً سريعةً تتمثّل في ضحك الجمهور الذي اعتادَ أنّ هؤلاء الاستثنائيين فقط هم مَن اختُصّوا بهذا الحُضور. وقد كان الفنان الراحل (سمير الإسكندراني) بالتأكيد واحدًا من هؤلاء الاستثنائيين.

 


وفي تقديري أنّ مفردات حضوره الطاغي تستعصي على الإحصاء والترتيب من حيث الأهمية. فهناك مفرداتٌ تتعلّق بمظهرِه، كلِحية دوجلاس المميِّزة له، والتي لا نكاد نذكر له ظهورًا بدونِها، وعباءته الفضفاضة التي يرتديها فوق البذلة الكاملة، فإن تركها فإنّ عازفي فرقتِه يرتدونها، في أناقةٍ هجينةٍ تجمع الشرقَ والغربَ في غير مجهود، فضلاً عن لوازمه الحرّكيّة المتراوحة بين ضبط الهندام والتفاعُل رقصًا مع الموسيقى والقِيام بدَور قائد الفرقة الذي يُعطي إشارات الوقف والابتداء وضبط الإيقاع للعازِفين. وهناك مفردةُ صوتِه الغليظ الخشن الذي يبدو قريبًا من طبقة الباص لا سيّما مع تقدمه في العمر، والعادة التي كانت تتسلّل أحيانًا إلى حفلاته، حيث يقطع الغناء ويشير للعازفين بالتوقف ليتحدثَ حديثًا حميميًّا عن حياتِه.

وهناك المضمون الثقافي لأغانيه، وهو مضمونٌ يجمع الشرق إلى الغرب، سواء بتجاوُر الكلمات العربية والإنجليزية، أو بإعادة توزيع الأغاني المصرية التراثيّة توزيعًا على أُسُسٍ غربيةٍ أوربية، وهو مضمونٌ يجعلُ أناقتَه الهجينةَ المتميزةَ تبدو صدىً صادقًا للخطّة الموسيقية التي اختطّها لنفسه. وهناك خلف كلِّ ذلك ما انطبع لدى الجمهور من حكاية بطولته الوطنية، عميلاً مزدوجًا استطاع خداع الموساد الإسرائيلي، وهي خلفيّة طالما أحاطَت حضوره – رحمه الله – بالمزيد من المهابة والإعزاز.

 


أغانٍ إنجليزية عربية:


حين حلَّ ضيفًا على الكاتب الراحل (يوسف عوف) وغنّى في هذا الفيديو
"Don't let me feel your touch. You're not for me"

 

 

 

كان أداؤه مزيجًا من التقاليد الأدائية الغربية - كما في الترعيد Tremolo في غناء نهايات الجُمَل، والشرقية، لاسيّما أداء العُرَب بمفهومها الشرقي، كما في أدائه لكلمة tears في نهاية جملة "I have to pay with my tears" حيث ينطوي أداؤه على حلية أدائية يصعد خلالها فوق النغمة الأساسية مرقّصًا صوته بين أنصاف النغمات إلى أن يستقر على النغمة الأساسيّة، وكما في أدائه لكلمة flame في جملة "The fire in my heart will burn with flame of desire". فضلاً عن ذلك، عمد الإسكندراني إلى تدخين سيجارة أثناء الغناء على طريقة (دين مارتِن) مثَلاً، وهو بذلك يخلق إيحاءً بالصورة النمطية للرجولة غير المُبالية كما ارتسمَت في أفلام هوليوود.

كذلك اشتُهر الإسكندراني بأدائه لأغنية كريم شكري Take me Back to Cairo "أعِدني إلى القاهرة" التي يتجاور فيها اللحن الغربي في السلم الصغير مع التيمة التراثية المصرية "يا نخلتين في العَلالي" في مقام الهُزام. ولعلّ الجمهور المصري قد اعتادَ سماع الأغنية من الإسكندراني لدرجة أن أصبحَت ركنًا ركينًا من برنامجه الغنائي، ولا يعرف كثيرون مطربَها الأصلي (كريم شكري)، وربما يعود ذلك إلى فخامة صوت الإسكندراني وركوزه وثقله مقارنةً بصوت (شكري)، فمع الإسكندراني كان يبدو الأمر أقربَ إلى الاستماع إلى فرانك سيناترا أو دِين مارتِن، يغنّي أحدُهما حنينًا إلى القاهرة!

 


أغاني التراث:


في تقديري أنه من الغبن أن يتجاهل محبُّو التراث الغنائي العربي – والمصري بخاصة – الدور الرائد الذي لعبه الإسكندراني في إعادة توزيع عدد من الأغاني التراثية المتجذرة في الوجدان الجمعي المصري، وتقديمها للجمهور المُعاصِر في ثوب ساحر، يجمع الإيقاع السريع وأصداء الپوليفونية الأوربية إلى تقاليد الأداء العربي الراسخة.


في أدائه (آه يا جميل) خطا الإسكندراني بالأغنية الخطوة الأكثر حسمًا في تاريخها الموغل في الطول. نعثر على ذكر الأغنية في كتاب (الموسيقى الشرقي) لكامل الخلعي بكلمات أقدم "رايح فين يا مسلّيني/ يا بدر حبّك كاويني/ املا المُدام يا جميل واسقيني/ يا كُتر شوقي عليك يا سلام"، ويقدم (الخلعي) لهذا الدور ضمن عشرين دورًا يقول عنها: "انتخبناها من الأدوار القديمة، وهي غاية في الطرَب، غير أننا بكل أسفٍ لا ندري أسماء ملحّنيها رحمهم الله"، غير أنّه من الشائع أن نصطدم باسم الشيخ عبد الرحيم المسلوب أو داود حسني كملحِّنَين محتمَلَين لهذا الدور القديم! والكلمات نفسها تتنازع فيها اللهجة المصرية واللهجة الحلَبيّة، لاسيّما حين نستمع إليها مغنّاةً في النسخة القائلة "آه يا حِلِو يا مسلّيني"، كما يشدو بها المطرب الكبير (صباح فخري). والمهم أن الشاعر الراحل (حسين السيد) صاغ الكلمات صياغةً جديدةً تُسقِط المفردات والعبارات القديمة التي فقدت دلالاتها أو حادَت عنها إلى دلالاتٍ تقترن بجوّ مُضحِك، ولعلّ العبارة الأبرز كمِثالٍ على ذلك عبارة "يا مسلّيني"، حيث كانت مفردة (التسلية) في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين أكثر ارتباطًا بالسَّلوى، وكانت تعتمل فيها معاني الحُزن وسُلُوّ الحُزن، بينما هي في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين – وإلى الآن – تقترن بمعنى تمضية الوقت في أنشطةٍ لا طائل من ورائها غالبا! أمّا التوزيع فقد خرجت فرقة الإسكندراني باللحن من مقام البياتي إلى مقام الكُرد، بخفض النغمة الثانية في سلّم (بياتي على درجة ري) – وهي نغمة (مي نصف بيمول) – رُبعَ بُعدٍ طنينيٍّ، ليصبح (مي بيمول)، والمحصلة أن مقام الأغنية يتغير من (بياتي على درجة ري) إلى (كُرد على درجة ري). وهذا التصرُّف – على شيوعه بين المؤلفين الموسيقيين العرب المتأثرين بتقاليد الموسيقى الأوربية – يُضفي حالةً من التأمُّل المختلط بالحنين على الأغنية، فضلاً عن تمهيده اللحنَ ليَقبل التآلفات الهرمونية التي تدخلُ النسيج الجديد للأغنية كما نسمعها من فرقة الإسكندراني.

 


أما في (يا غُصنَ نقا) فقد حافظت نسخة فرقة الإسكندراني على الكلمات الأصلية للموشَّح السابحة بين الفصاحة والعامّيّة المتخففة من ضبط أواخر الكلمات، إلاّ أنّه بعد مقدمةٍ أقرب ما تكون إلى تآلُفات الچاز تؤديها النحاسيات مع البِاز-جيتار في سلّم صغير، لا يلتزم بمقام (الهُزام) الأصليّ للأغنية إلا (سمير الإسكندراني) وبطانتُه، أمّا العازفون فيقدمون خلفيةً في النهاوند تجعل الغناءَ أقرب إلى لوحة محفوظة في إطار ثمين، ننظر إليها أثناء استماعنا ونعرف أنها لا تنتمي إلى عصرنا هذا، بعكس ما يحدثُ مع (آه يا جميل) التي خلقها الإسكندراني وفرقتُه خلقًا آخر.

 


انتهاءً، لقد ترك الإسكندراني إرثًا موسيقيًّا متميزًا بالفعل، سواءٌ في تحديث التراث الغنائي أو الغناء بلغاتٍ أجنبيةٍ أو الغناء للوطن، وإن كان للأسف إرثًا محدودًا، لا أدري لماذا، وإن كان يبدو لي أنّ فرادةَ اللون الذي قدَّمَ نفسه فيه من البداية، فضلاً عن الوهج الاستثنائي الذي أحاط بشخصه وغلّف حضورَه المسرحي، أقولُ يبدو أنّ هذين العاملَين هما سببا هذه المحدودية في إرثِه، وأنهما قد شغلاه عن تقديم المزيد من التجارب الغنائية، وعزاؤنا أنّ ما تركَه يُلِحُّ على ذاكرتنا الجمعية بصِفَته مدخلاً خاصًّا جدًّا إلى الجَمال.