قضايا وآراء

في سوسيولوجيا العنصرية الأمريكية

1300x600

ليس صدفة أن أعمال الشغب التي ضربت الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة الماضية كانت جميعها بسبب عنصرية الشرطة تجاه السود (لوس أنجلوس 1992، فلوريدا 1996، سينسيناتي بولاية أوهايو 2001، أوكلاند 2009، فيرغسون بولاية ميزوري 2014، بالتيمور بولاية ماريلاند 2015، ميلووكي بولاية ويسكونسن 2016).

تشير هذه الأحداث إلى أن مسألة العنصرية لم تشطب من الوعي والسلوك الأمريكي، وإن كانت قد شطبت من التاريخ السياسي ـ الدستوري في لحظة العبودية (القرنين الـ18 والـ19) وفي لحظة الأبارتهيد (القرن الـ20).

قراءة خاطئة

إن النظر إلى مسألة التمييز العنصري وعنف الشرطة ضد المواطنين السود، لا يجب أن يقرأ ضمن سياق الاستبداد الشرقي ـ العربي عندما حاولت وسائل إعلام عربية وشخصيات مدافعة عن الاستبداد تشبيه الأوضاع في الولايات المتحدة بذات الأوضاع في سوريا وليبيا واليمن.

ثمة فرق كبير بين عنف الشرطة الأمريكية داخل نظام سياسي ديمقراطي ـ ليبرالي، وبين عنف الأمن داخل منظومة استبداد كاملة، في الحالة الأولى العنف مجرد سلوك شخصي لا يلقى غطاء ودعما من قبل مؤسسات الدولة، وفي الحالة الثانية، ليس العنف سوى سلوك ممنهج مدعوم من أعلى المستويات.

 

لا توجد في الولايات المتحدة أزمة عنصرية مستعصية، لقد انتهت هذه المرحلة مع التعديلات الدستورية ضد قوانين الفصل العنصري وتمرير قوانين الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي، لكن ما بقي هو رواسب ثقافية تعبر عن نفسها أحيانا في ممارسات مؤسساتية غير مقوننة.

 



تجليات العنف في الحالة الأولى، انعكس في قرار المجلس البلدي في مينيا بوليس بتفكيك الشرطة في المدينة بالتزامن مع تقديم الديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ مشروع قانون شامل لإصلاح الشرطة، وانعكس أيضا في طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الحكومة الإسراع في تقديم اقتراحاتها لتحسين أخلاقيات قوات الأمن.

أما تجليات العنف في الحالة الثانية، فكان في تعزيز سطوة قوى الأمن ضد المواطنين، وعدم إخضاع رجالات الأمن للمحاسبة الجنائية والقانونية.

كما أنه ثمة فرق كبير بين عمليات النهب والسرقة التي حدثت في مينيابوليس ونيويورك وبين "التعفيش" في سورية على سبيل المثال، في الحالة الأولى، ثمة رد فعل عفوي عن مظاهر الظلم الاجتماعي ـ الاقتصادي لدى فئة ليس لها أهداف سياسي، وفي الحالة الثانية ثمة عمليات نهب مقصودة أساسها استلاب كل الحاجيات المادية للآخر المعارض. 

في الحالة الأولى، كان عنف المواطنين الجزئي موجها ضد النظام الرأسمالي ومظلوميته، وفي الحالة الثانية، كان مصدر العنف هو الأنظمة الاستبدادية وأدواتها الأمنية ضد المواطنين... إنه فرق تاريخي وحضاري.

إن الغوغاء والعنف الذي قد يصاحب التظاهرات الاحتجاجية هو حالة طبيعية، لأن إرادة المجموع ليست مجموعا حسابيا لإرادة الأفراد المشاركين فيها، هنا تختفي الإرادة الفردية وتظهر إرادة جماعية مختلفة تماما عن إرادات الأفراد، وغالبا ما تكون الإرادة الجماعية الجديدة إرادة قطيع.

وإذا ما كانت التظاهرات لأسباب سياسة محضة، فغالبا لا تحدث عمليات نهب، لكن يحدث عنف ضد مؤسسات الدولة كما حدث في كثير من الدول الآسيوية والأوروبية، أما في حالات المظلومية الاجتماعية أو الاقتصادية، فغالبا ما تحدث عمليات نهب تختلف شدتها باختلاف تطور المجتمعات وباختلاف مستوى المظلومية الاجتماعية، ويمكن ملاحظة ذلك بين تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا قبل عامين وبين احتجاجات عام 2005 العنيفة في فرنسا، حيث كانت المظلومية الاجتماعية والاقتصادية كبيرة جدا.

لكن، في جميع الحالات نشاهد عنفا مواز ومساو من قبل الشرطة، ولا نرى عمليات قتل عشوائية ضد المحتجين كما حدث في الدول العربية.

السياق التاريخي

يجب أن تقرأ الأحداث الأمريكية ضمن سياقها التاريخي، أي ضمن مشكلات الديمقراطية ـ الليبرالية الأمريكية، وضمن سياق الثقافة السياسية للمجتمع، وثالثا، ضمن خصوصية المجتمع الأمريكي الذي تتقاسمة خمسة فئات على اختلاف مكامن القوة فيها (البيض البروتستانت، السود، الهسبان، اليهود، المسلمون)... إنها مجتمعات متنوعة في مجتمع واحد كبير كان من المفترض أن يكون بوتقة صهر ثقافي وسياسي.

لكن حجم الهجرة الكبيرة إلى الولايات المتحدة مع التراجع الاقتصادي، هيأت الأرضية لطرح سؤال الهوية، ذلك السؤال الذي طرحه صموئيل هنتنغتون في كتابه الهام "من نحن"؟ 

أزمة الهوية في أمريكا فريدة، لكن أميركا ليست فريدة في كونها تعاني من أزمة الهوية، لقد ظهرت أزمة الهوية فيها في ظهور التعدد الثقافي والوعي العرقي والإثني والجنوسي يقول هنتنغتون، وهذا يعني أن الثقافة الفردية الليبرالية البروتستانتية يجري تقويضها بهجرة شرعية وغير شرعية واسعة النطاق.

لقد تنبه إلى هذه المسألة كثير من الفلاسفة الأمريكيين على غرار هنتنغتون مثل هابرماس مع فكرة التواصل الاجتماعي العقلاني، ورولز مع وضع الحريات ضمن نظرية شاملة في عدالة هدفها المساواة في الحقوق والفرص. 

 

إن الغوغاء والعنف الذي قد يصاحب التظاهرات الاحتجاجية هو حالة طبيعية، لأن إرادة المجموع ليست مجموعا حسابيا لإرادة الأفراد المشاركين فيها، هنا تختفي الإرادة الفردية وتظهر إرادة جماعية مختلفة تماما عن إرادات الأفراد، وغالبا ما تكون الإرادة الجماعية الجديدة إرادة قطيع.

 



لا توجد في الولايات المتحدة أزمة عنصرية مستعصية، لقد انتهت هذه المرحلة مع التعديلات الدستورية ضد قوانين الفصل العنصري وتمرير قوانين الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي، لكن ما بقي هو رواسب ثقافية تعبر عن نفسها أحيانا في ممارسات مؤسساتية غير مقوننة.

إن عنف الشرطة الأمريكية ضد السود من جهة، وأزمة "كورونا" التي وجهت ضربة قاسية للطبقة الوسطى الأمريكي (خصوصا السود) من جهة ثانية، والخطاب الشعبوي للرئيس الأمريكي دونالد ترمب من جهة ثالثة، كلها عوامل فجرت الوضع في الولايات المتحدة، وما قتل جورج فلويد إلا الشرارة.

لقد استند ترامب في خطاباته وأنشطته السياسية على شعبوية عنصرية موجهة ضد السود والمهاجرين.

وإذا كانت الشعبوية ظاهرة يسارية في الأساس، فإنها أضحت ظاهرة يمينية منذ سنوات مضت، والفرق بين الحالتين مهم للغاية، فالشعبوية اليسارية كانت بهدف حشد المشاعر الشعبية كشكل من أشكال الضغط السياسي على السلطة، أما الشعبوية اليمينية (لوبين فرنسا، ترامب أمريكا) فهي شعبوية نخبوية قائمة على الإقصاء، إذ طالبت بقصر الميزات والفوائد على جماعات محددة إثنيا.

وعلى هذا الأساس، فإن شعبوية اليمين بحسب عالم السوسيولوجيا إيمانويل فالرشتاين، لم تكن على الإطلاق ديمقراطية، لأن هذا النوع من الشعبوية يتعارض مع الديمقراطية والليبرالية.

ولا يمكن بطبيعة الحال فصل الخطاب الشعبوي لترامب عن تطور الرأسمالية الأمريكية التي جمعت بين السلطتين السياسية والاقتصادية،  إذ بدا إيجاد الثروة ميالا إلى ما يمكن أن يطلق عليه اسم الإنتاج الحيوي السياسي بحسب هاردت ونيغري، حيث يتداخل ما هو اقتصادي مع ما هو سياسي وما هو ثقافي أكثر فأكثر.

هذا التداخل الحاصل بين السياسة والاقتصاد والثقافة الناجم عن تداعيات العولمة أدى إلى تحويل السياقات المحلية للخبرة الاجتماعية إلى شرائح تتولد منها نتائج متعارضة في المحليات الضيقة، الأمر الذي أدى إلى إنتاج كم كبير من الشتات الثقافي، دفعت بعض الجماعات إلى تأكيد الهوية الثقافية المحلية على حساب الهويات الوطنية الأكثر اتساعا.

وما تزال السنوات الفاصلة بين ستينيات القرن الماضي والتظاهرات الأمريكية الحالية، تخبرنا عن التصدعات الكبيرة الحاصلة في المؤسسات الأمريكية وفي منظومة القيم السياسية.

إن الشعبوية الأمريكية الجديدة من جهة وعنف الشرطة القديم ضد السود من جهة ثانية، هو انعكاس لعدم حصول التزاوج الكامل بين الديمقراطية القائمة على المساواة وبين الليبرالية القائمة على الحريات المدنية والحريات الحقوقية، بل يمكن أن نضيف ما يلي: إن مشكلة الديمقراطية ـ الليبرالية الأمريكية تكمن في غلبة السمة الليبرالية في النظام السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي على السمة الديمقراطية.

*كاتب وإعلامي سوري