أخبار ثقافية

لينين الرملي: عقل مؤمن بالإنسان

لينين الرملي - ارشيفية

* الضحك من قلب المأساة:


     حين نعود إلى قراءة موليير، نكتشف أنّ مسرحياته المشهورة بريادتها الكوميديا الفرنسية – سواء (عدو البشر) أو (طرطوف) أو (البخيل) أو غيرها – ليست ضحكا صافيا أبدا، فقد كان مثار الضحك في أحداث تلك المسرحيات هو المفارقة الكامنة في قلب مأساة اجتماعية حقيقية. هكذا كان الأمر أيضًا مع أرسطوفان رائد الكوميديا الإغريقية إذا راجعنا مسرحيته (السحُب) حيث خلفية الأحداث هي مأساة سقراط وتلامذته في انعزالهم عن مجتمعهم كما نظر إليهم أرسطوفان. المهم أن الكوميديا تنشأ بتحييد عواطف الشفقة والتعاطف وتعطيل حاسّة التقمص والتوحد مع البطل، ولا يحدث هذا إلا بتقديم أبطال الدراما للجمهور من خلف عدسة مجهر مكبِّرة، تساعد على تشريحهم وتبين نقائصهم البشرية. وعلى هذا فكل كوميديا هي بدرجةٍ ما تراجيكوميديا بالأساس. لا ينبع الضحك إلا من قلب مأساة، خاصةً إذا كان ضحكًا مُرًّا كالذي يحترف تقديمه كُتّاب الكوميديا الكبار، والمؤكد أن أستاذنا الراحل (لينين الرملي) واحد من هؤلاء.

     لم يتعاط الجمهور المصري نصوصه الدرامية قراءةً إلا قليلا، لكن تشربها الوعي الجمعي المصري من خلال نجاحها الجماهيري على خشبة المسرح وشاشتي التليفزيون والسينما. وهو نجاح أظنه كان كفيلاً بأن يغري الناقد الكبير الراحل فاروق عبد القادر بأن يُدرِجه في علامات السقوط في كتابه (ازدهار وسقوط المسرح المصري)، مع (علي سالم) وغيره ممن حققوا نجاحًا جماهيريًّا من كُتّاب المسرح، ولا أدري كيف أفلت (لينين الرملي) من قبضة هذا الكتاب!

* كاتب متحرر من الأيديولوجيا:

     والمتأمل لمسرحيات (الرملي) ومسلسلاته وأفلامه يجد تنوعًا كبيرًا بدرجةٍ ملحوظة فيما تناولَته أعماله من قضايا، فقد كان يبدو متحررًا من سطوة الأيديولوجيا التي توجّه الكاتب في اتجاه معين أو تطبع أعماله بطابَع يصعب إغفاله، وسنجهد كثيرًا لنخرج بهاجس واحد نفترض هيمنته على عقل (لينين الرملي) بعد مراجعتنا أعماله شديدة التنوع، اللهم إلا إن كان هذا الهاجس هو الإنسانية في عموم تجلياتها، وفي خصوصية تعيُّنها في المجتمع المصري المعاصر كما عايشه وعركه كاتبنا الراحل.

* سمة عامة - القضية والرحلة:

     فإذا استعرضنا عددًا من هذه الأعمال بنظرة بانورامية، فسنصطدم مثلاً في مسرحية (وجهة نظر) التي أخرجها الفنان (محمد صبحي) رفيق رحلة (الرملي) بقضية مواجهة السُّلطة والتمرد على الأمر الواقع وتحدي الظرف العام، وذلك من خلال مجتمع من المكفوفين تستضيفه جمعية خيرية لرعاية المكفوفين، وإدارة الجمعية مصابة بفساد مالي وأخلاقي متغلغل في جذورها، ولا يفضح هذا الفساد ويحرض المكفوفين على الثورة على أوضاعهم إلا (عرفة الشواف) الذي تتهمه الإدارة بادعاء العمى ويشك فيه زملاؤه كذلك. وفي مسرحية (الهمجي) – أيضًا من إخراج وبطولة (صبحي)، نصطدم بالهمجية المستكنة تحت قشرة الحضارة الهشّة، وهي همجية تنتظر اللحظة المناسبة دائمًا لتنفجر، حيث تبدأ الأحداث مع إنسان ما قبل التاريخ وجريمة القتل الأولى لتقفز إلى إنسان مصري معاصر هو (آدم عبد ربه آدم) الذي يقدم نفسه بصفته (مُعلّم ومربّي أجيال)، ويتابع (الرملي) تطور (آدم) وخيانته التدريجية لما يؤمن به ويردده من مبادئ تحت ضغط الحاجة الاقتصادية وإغراء الشهوة إلى أن يتنكر لإنسانيته الخطاءة في النهاية ويستبدل بعقلِه عقلاً إلكترونيًّا يحوله إلى آلة. فإذا تركنا تعاونات (الرملي) مع (صبحي) فسنجده في مسرحية (سُك على بناتك) – من إخراج وبطولة (فؤاد المهندس) – يتعرض لقضية تربية البنات في مجتمع شرقي محافظ، وفي مسلسل (هند والدكتور نعمان) – من إخراج (رائد لبيب) وإنتاج عام 1984 - نجد قضية الفجوة بين الأجيال من خلال العلاقة التي تتطور تدريجيًا بين الجد د.نعمان (كمال الشناوي) وحفيدته هند (ليزا)، كما نجد قضية المسئولية المجتمعية التي يجد الجد نفسه مغروسًا فيها بنهاية المسلسل بعد أن عاش الشطر الأكبر من حياته منطويًا مكتفيًا بذاته. أما في فلم (البداية) الذي أخرجه (صلاح أبو سيف) سنة 1986، فقد تعرض (الرملي) لمشكلة التسلُّط مجددًا من خلال مجتمع صغير من ركاب طائرةٍ سقطت بهم طائرتهم في واحة في صحراء مصر، ومن شاهد هذا الفلم لا يمكنه نسيان أداء الفنان الاستثنائي الراحل (جميل راتب) لدور رجل الأعمال الانتهازي المتسلط، وتعيينه حصة من البلح لكل واحد من الركاب لا يتخطاها في يومه!

     حتى في المسلسل الذي يشار إليه دائمًا باعتباره نموذجًا مثاليًا للكوميديا الخفيفة (حكاية ميزو) – من إخراج محمد أباظة سنة 1977- لا يعدم المشاهد قضيةً واضحةً وإن كانت بسيطة، هي قضية الاهتمام بالمظهر ومجاراة المجتمع بين الشابة المثقفة الانطوائية الساذجة مجتمعيًا (نفيسة/ فردوس عبد الحميد) والشاب العابث المستهتر صائد العلاقات العابرة ميزو (معتز/ سمير غانم) الذي تذكّرنا شخصيته من بعيد بشخصية الغندور Dandy التي صورها أوسكار وايلد في مسرحياته وروايته (صورة دوريان غرِاي)، ومن شاهد المسلسل ربما سيتذكر ذلك المشهد الذي يحاول فيه ميزو التأثير على نفيسة بعد تعارفهما برسم صورة زائفة لنفسه، حيث تحدثه نفيسة عن غرامها بمسرحيات الكاتب النرويجي هنريك إبسن، فيحاول ميزو إيهامها بأنه قرأ إبسن بالنرويجية لغته الأصلية، بينما يعرف المشاهد أن أقصى طموحات ميزو في القراءة هو مجلة ميكي! 

     المهم في ما مررنا به من أعمال كاتبنا الراحل أنها جميعًا تستعرض رحلة يتطور فيها البطل بشكل إيجابي، فالجد المنسحب من الحياة الاجتماعية في (هند والدكتور نعمان) يعود للحم الحياة من خلال حفيدته، والشاب المستهتر في (ميزو) يغير أسلوب حياته في النهاية حين يكتشف أن طريق (نفيسة) كانت جديرة بالاحترام منذ البداية، خاصةً أنها استطاعت أن تجاري مظاهر المجتمع في وقت لا يُذكَر حين أرادت ذلك. والأب المبالغ في محافظته المتعنت مع بناته يُنهي (سُك على بناتك) بقوله "سك على بناتك بس اديهم المفتاح" في تلخيص لرؤية الكاتب التربوية المتّزنة. وحتى حين يبدو التغلب على الهمجية مستحيلاً في نهاية (الهمجي) نجد ملائكة العرض المسرحي تتدخل لإقناع البطل (آدم) بالاستمرار في المحاولة وعدم التخلي عن إنسانيته التي تفلح مرةً وتخيب مرات. والشاهد أن (لينين الرملي) كان يبدو صاحب رؤية متفائلة واثقة في الإنسان رغم عثراته.

* ماذا عن الوعظية/ الخطابية؟!

     كعادة كُتّاب الدراما، يظهر أن قضية العمل كانت تمثُل بقوةٍ أمام عيني (لينين الرملي) قبل شروعه في الكتابة، وهو ما ينقل إلى مشاهديه أحيانًا إحساسًا بالوعظية أو الخطابية. وفي رأيي أن هذه الخطابية سمة حاضرة بدرجات متفاوتة في الدراما، لكنها دائمًا أكثر حضورًا ف الدراما منها في الرواية التي يتعامل كُتّابها معها من منطلَق الرصد المحايد في كثير من الأحيان. والحق أن قالَب الرواية بما يتيحه من حرية السرد والالتفاف على الأشخاص والأحداث يبدو مُغريًا ومحرضًا على هذا الحياد المتعالي بشكلٍ ما أو بآخر، حتى أننا مع عصر انهيار المرجعيات وتفكك القِيم المطلقة نجد بعض الروائيين ونقاد الرواية يعبّرون عن نفورهم من (تشارلز دكنز) أحد شيوخ الرواية في العالم حين يصطدمون به يعبر عن وجهة نظره الشخصية في الأحداث مقحمًا صوتَه الخاص على تيار السرد. ويلحق بالرواية الفلمُ السينمائي، حيث تبدو الأشياء فيه غالبًا كما هي في الحياة، لا أكبر مما هي في الحياة كما على خشبة المسرح larger than life. وربما لهذا قد يشعر أصحاب المزاج الروائي الصِّرف بشيء من النفور أمام بعض أعمال (الرملي) إن لم ينتبهوا لهذا الفارق المهم بين تكوينه ككاتب دراما مخلص للدرامية في الأصل، وتكوينهم الروائي. وربما لهذا أيضًا حفرت أعماله المسرحية مكانًا خاصًا لها في الوعي المصري الجمعي بشكل أرسخ من أعماله السينمائية القليلة.

     انتهاءً، لا يمكن أن ينتهي هذا المقال دون أن يعترف كاتبه بما لأستاذه الكبير من فضل عليه، فقد كانت أول جائزة ينالها نص مسرحي أكتبه من يد (لينين الرملي) سنة 2013 على مسرح ساقية الصاوي بالزمالك، حيث فوجئت بالأستاذ الكبير حكَمًا في مسابقة النصوص المسرحية ذات الفصل الواحد، ما يشي بتواضعه الجم وإخلاصه لفن الكتابة المسرحية وحرصه على مساندة شباب الكُتّاب، حتى أن كاتبًا في قامته نذر من وقتِه لقراءة نصوص مسرحية لكُتّاب لم يسمع بهم أحد من قبل.

     رحم الله أستاذنا لينين الرملي الذي سنفتقد حضوره الجسدي بالتأكيد، وإن كانت أعماله تحمل روحه بيننا، في كامل إيمانها بالإنسان وانتصار الإنسان.