قضايا وآراء

الميلاد السوري حفنة الضوء النازفة

1300x600
ليس من قبيل التخمين القول بأن قضية تحرر السوريين من نظام الطاغية، قد دخلت مرحلة بالغة الحساسية، ذلك أن المسار الذي اتخذه النظام وحليفه الروسي منذ انتهاء جلسات أستانا الأخيرة، بالحشد والتصعيد، ومن ثم استئناف العدوان على مناطق الشمال السوري في إدلب وأريافها، يتكشف عن اقتراب متسارع لتنفيذ سيناريو دموي يندرج في إطار سياسة "الممكنات"، وهي تنطوي على مخاطر بالغة بحق المدنيين وملايين المهجرين.

النتائج النهائية للعدوان على السوريين إدلب وأريافها، مرتهنة إلى حد بعيد بالمفاعيل الذاتية والموضوعية، وحالة ميزان القوى ذات العلاقة، الذي تميل كفة أرجحيته نحو محور البطش الروسي الأسدي الإيراني، في حدود المعطيات الراهنة والسابقة. وإذا كان لكل مرحلة من مسيرة السوريين سماتها المميزة، فإن أبرز سمات مرحلة التصعيد أنها تُبنى في ظل خيار الحسم الدموي المغطى دوليا بإحكام، الذي تقوده كل من موسكو وواشنطن، وفق النهج المعروف في سياسة المراحل السابقة من الأعوام المنقضية، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المعرض هو: هل سيطرة الأسد ستحد من تطلعات المجتمع السوري نحو الحرية والمواطنة والعدالة والكرامة الإنسانية، وهل يظن محور القوة الباطشة الذي تقوده موسكو وطهران، أن السوري يتكيف مع الأمر الواقع وحسب؟

السؤال بطبيعته يوحي بالنفي، بيان ذلك واسع بآلاف الأسباب التي زادت على ما كان قائما في حقبة العقود الخمسة الماضية من حكم الأسد الأب والابن، وتوجت بقيامة السوري بوجه القمع والقهر والظلم والفساد، فالمُسَلم بهِ أن إضافات الأسد الجرمية بحق المجتمع السوري تشكل معادلا "إيجابيا" لا ينبغي التقليل من أثره أو التفريط به بأي حال من الأحوال، كأسباب موضوعية للمضي نحو إسقاط الطاغية، وعليه فإن حقل خيارات السوريين يتسع باستكمال ميلاد السوريين الجديد، المرتكز على إرادة عظيمة ومدهشة، لم يكن خيارهم خوض معارك عسكرية، لم يمتلك السوري غير حنجرته وقلبه وعقله، لمواجهة نظام تسلح بكل عصابات الأرض لمواجهة شعبه.

إحكام القبضة على رحم الميلاد

ثمة حقيقة لا تحتاج لبرهان، هي أن ثورة السوريين وميلادهم الجديد من رحم القمع والقهر، لم يعد بحاجة لتحليل. فالنفاق الدولي والعربي لمباركة قيامتهم، بُني أساسا على تجاهل مصالحهم وتطلعاتهم، وعدم السماح لأي ترتيبات من شأنها ظهور السوري بولادته الجديدة، ذلك أن مثل هذه القيامة شكلت خطرا جديا على وظيفة الطاغية وأقرانه في المنطقة، محتلا ومستبدا.

وليس من قبيل المصادفة أن تتعرض ولادة السوري الجديد لمختلف أشكال التشويه والحصار، والتعطيل من الخارج والتفتيت والإضعاف من الداخل، وتعليق جرس الإرهاب على قابِلة الثورة، والزج بكل الذرائع للرضوخ لأدنى أشكال التسوية التي تؤمّن وأد المولود الجديد، وهي ليست السبب الوحيد لتكاتف وحشية النظام مع حلفائه ضد السوريين، لكنها السبب المهم الذي حملتهم على تكثيف إجراءات التدمير والقتل الواسع في عموم الأراضي السورية.

حفنة من ضياء حملتها قيامة السوري، تغبط الروح وتسعف العين على الرؤية، رغم رياح الموت تارة وعواصف البراميل والطائرات تارة أخرى؛ حفنة الضياء تتأمل الأشياء، وتريد أن ينصب الميلاد السوري ضياء تعدم القهر والجهل والظلم، وتمنح الإنسان ألبسة قشيبة من كرامة لا تبلى، وتهب العقل حرية دائمة تعشق الحياة.

ارتدى السوري في قيامته ألبسة رسولية، ويدفع ثمن التبشير عذابات من القتل والمطاردة والتحطيم.. الميلاد صعب، لكنه يحمل في داخله عناصر صراعه المتواصل، واجتياح الطاغية لمتاريس القيامة السورية، والتصرف على أنه أحكم القبضة على رحم الميلاد رغما عن أنف التاريخ وبديهيات الواقع؛ ما كان ليتحقق كل ذلك لو لم يكن الواقع العربي والإقليمي والدولي، بمثل هذه الحالة المنهارة والمتردية، لو لم يكن هذا الدوس على كرامة السوريين بهذه الرعونة والخذلان ما كان لهذا المخاض العسير أن يكون.

الشعور بالأمل باقٍ، حتى لو ضاق الواقع بكل أمل جديد، وبكل ميلاد للسوري، ما يزال سوريون من أقصى البلاد جنوبا وشمالا شرقا وغربا، يأتون إلى الأزقة يخطون شعاراتهم ويصدحون بحناجرهم، ويتأملون كلماتهم عن المواطنة والحرية والكرامة والعدالة، لم تمنعهم كثرة الحطام وصور الشهداء ولا الشعور العميق بالمأساة، من الإيمان بأمل ميلاد سوريا دون طاغية، ودونه يكتمل الميلاد ويوقف نزف الضياء.