قضايا وآراء

رسالتي إلى السواد الأعظم من قضاة مصر

1300x600
لقد كنتم حتى شهور قليلة ترتدون رداء زعمتم أنه رداء الغيرة على القضاء واستقلاله ونزاهته.

لقد كنتم منذ شهور قليلة تحاصرون مكتب النائب العام الأشرف في تاريخ النيابة العامة، وتتباهون بالتطاول عليه وتدعون أنه النائب العام الملاكي، رغم أنه لم يحبس معارضاً واحداً من معارضي الرئيس الشهيد محمد مرسي، والذين كانوا لا يملون من ارتكاب جرائم في حقه ليل نهار. 

لقد هتفتم يوماً ما في بهو دار القضاء العالي: "يسقط يسقط حكم المرشد".

لقد سرتم خلف المُقال أحمد الزند كالمغشي عليه بلا إرادة، بينما هو كان يستعملكم لتحقيق أغراض رسمها في مخيلته. لقد شاركتموه وقفته يوم نكسة الثلاثين من يونيو.

لقد قام بعضكم بإلقاء بيان العار من على منصة تمرد بميدان التحرير.

لقد فعلتم كل شيء لإفشال الرئيس مرسي، رغم أنه رئيس منتخب ديمقراطياً بانتخابات أنتم من أشرف عليها، وأنتم من يعلم كم الضمانات التي أحاطتها لضمان نزاهتها وأنتم من أعلن نتيجتها.

لقد فعلتم كل شيء لأوهام ساقها إليكم المُقال أحمد الزند، مفادها أن الرئيس مرسي جاء لينال من استقلالكم، وهو محض إفك وكذب وافتراء.

واليوم، أنا أطلب من كل واحد منكم أن يقف منفرداً أمام مرآة ضميره ليحكم هو على نفسه: أين هو من القضاء؟ هل لا زال يعتقد أن هناك قضاء في مصر؟ هل لا زال يعتقد أنه قاض يطمئن إليه الناس فيلجأون إليه لحمايتهم من عسف السلطة وبطش السلطان؟

هل بقي من سمت القاضي في نفوسكم سوى بدلة فاخرة ورابطة عنق وعطر فرنسي وسيارة فاخرة؟

لقد ضاع كل شيء وجاء عليكم اليوم الذي يُسجن فيه أحد أكبر شيوخ القضاء، يُسجن بعد منحه قرار الإخلاء، يُسجن بعد أن عاش الأمل، يُسجن بعد أن أقام ذووه الاحتفالات، يُسجن الرجل الذي قاتل دفاعاً عن استقلالكم، الرجل الذي بكى حزناً على هوانكم وأنتم تنظرون، وجميعكم تعلمون، من أصغركم لأكبركم، أنه يواجه اتهامات كاذبة ملفقة، سواء منكم من يعرفه شخصياً أو يعرف اسمه وتاريخه.

جميعكم تعلمون من هو المستشار أحمد سليمان، الرجل الذي جلس على كرسي وزير العدل فلم ينتقم لنفسه من أرباب الزند الذين حاربوا لإفشاله، ولم يشتت شملهم، ولم ينقلهم للعمل في الوادي الجديد أو شمال سيناء، ولم يقرر إحالتهم إلى التحقيق في التفتيش القضائي الذي كان تحت يده (حتى وإن كان يسعى لنقل تبعيته لمجلس القضاء الأعلى، إلا أنه يبقى أنه كان تحت يده حتى يوم مغادرته وزارة العدل)، ولم يقرر إحالتهم لمجلس الصلاحية، ولم يحرمهم من مستحقاتهم المالية، ولم يغلق باب مكتبه في وجوههم.

كل ذلك فعله جميع من جلسوا على كرسي وزير العدل بعده.. لكنه كان قاضياً بحق.. كان كبيراً.. كان رجلاً.

 كنت أقول في نفسي من ذلك الرجل الصالح الذي دعا الله بصلاح أمر وزارة العدل فيستجيب له الله ويجلس على قمتها القاضي أحمد سليمان؟ لكنكم ظلمتموه ولم تنزلوه منزلته ولم تقدروه حق قدره، ووقفتم موقف المتفرج الذي شل لسانه عن الحق بينما كانت ألسنتكم في الباطل كما الببغاء.

لقد أقمتم الدنيا يوم إقالة أحمد الزند بقرار نُشر في الجريدة الرسمية ليطبق بأثر رجعي، رغم أنه خرج وعاره في يديه إلى يوم القيامة، ولكن منكم من هدد باستقالة ومنكم من اقترح طلبات إنهاء ندب جماعي من وزارة العدل، ومنكم من اقترح جمعية عمومية طارئة بنادي القضاة لنصرته، ومنكم من اقترح إقامة حفل تكريم مهيبا، ومنكم من وضع اسمه على إحدى قاعات نادي القضاة.

لقد كرمتم كل فاسد، وما من فاسد إلا وقاتلتم دفاعاً عنه، وتركتم أسودكم تصارع منفردة، ولذلك ستقتلكم الكلاب..

سنزعون منكم مهابتكم، وسيبخسون أموالكم وسيسلبون أعز ما تملكون لأنكم صرتم أمامهم أهون من بيت العنكبوت.

صاروا ينظرون إليكم أنكم مأمورين، لا كلمة لكم ولا قرار. تركتم كل هذا الخراب الواقع أمام أعينكم، وتفرغ نادي القضاة للتواصل مع الفنان محمد صبحي لتوفير تذاكر للقضاة لمشاهدة مسرحيته الجديدة، والمفارقة أن اسم المسرحية "خيبتنا".

لقد قالها المستشار حسام الغرياني في نادي قضاة الإسكندرية عام 2011، في كلمته لجمع من القضاة: "إن لم ينصلح حال القضاء ويتطهر من الفسدة فستكون ثورة الشعب القادمة على القضاء".

واليوم أسألكم: ماذا بقي لكم من مهابة في نفوس الشعب؟ ماذا قدمتم للشعب في محنته؟ كيف مارستم دور القاضي؟ ماذا تنتظرون من أولئك الذين حل عليهم الظلم والقهر والوجع والفقر والاستبداد منذ أكثر من ستة أعوام مضت؟ ماذا تنتظرون من شعب لاذ بكم، واطمأن إليكم فتركتموه، وتفرغتم لجمع الغنائم؟ اليوم حل عليكم الفقر والعوز وبح صوتكم للمطالبة بذهب المعز الذي انقطع.

هل من المروءة منح الأمل بالحرية ثم انتزاعه مرة أخرى عبثاً؟ هل من مهمة القضاء التلاعب بمشاعر الناس؟ هل من مهمة النيابة العامة التعالي على القامات والإنبطاح أمام الأقزام؟ هل من المروءة أن يحمل شيخ القضاة حقيبته صاعدا للطابق الرابع على الدرج بعد إيهامه بالحرية ثم معاودة سجنه لأجل كلمة حق جهر بها؟ هل من القضاء أن يُسجن من قال بمصرية الجزيرتين وتطلق يد من باعهما؟ هل من القضاء أن يُسجن من قال عن رابعة مذبحة وتطلق يد سفاحها؟، هل من القضاء أن يُعاقب 75 من المجني عليهم في رابعة بالإعدام وتُطلق يد السفاح؟ هل من القضاء أن يُسجن من دافع عن استقلال القضاء وتُطلق يد من انتهكه؟

هل من القضاء أن يُسجن المستشار أحمد سليمان وتُطلق يد المقال أحمد الزند؟ هل من القضاء أن يُسجن من طالب بحماية المال العام وتطلق يد من أهدره؟ هل من العدل أن يُلقى بطفلين أسفل عجلات القطار يمزق أجسادهم لأجل تذكرة قيمتها سبعين جنيهاً بينما تُبنى القصور بسبعين مليار؟

هل جرب أحدكم أن يسير في الطرقات فيسأل الناس كيف يرون القضاء؟ أين أنتم من قول ابن تيمية لما أتاه الجلاد في سجنه بدمشق وقال له: اغفر لي يا شيخنا فأنا مأمور، فقال له ابن تيمية: "والله لولاك ما ظلموا".

 

أين أنتم من قول سفيان الثوري لما أتاه خياط فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟ فقال له سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع لك الإبرة والخيوط؟

أين أنتم من قول الإمام أحمد بن حنبل حينما جاءه السجان فقال له: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟

قال الإمام أحمد: نعم.

قال السَّجَّان: فأنا من أعوان الظلمة؟

قال الإمام أحمد فأعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فْأما أنت فمن الظلمة أنفسهم.

هذه الأقوال سجلها التاريخ ونسيتموها. نسيتم أن أهم سمات القاضي هي القوة والشجاعة والمروءة والنخوة والعدل، ونسيتم أن القاضي الجبان لا يحكم بالعدل، وصاحب اليد المرتعشة لا تستطيع يده كتابة حكم عادل.

نسيتم أن القاضي عليه أن يقرأ ما بين السطور لا تنطلي عليه خيالات الباطل ولا تستخفه هيبة الطغاة وقد جرت الأنهار من تحتهم، وحسبه الإيمان بأن رسالته كلمة حق في وجه سلطان جائر يلقى بها الله يوم أن يقال: "لا ظلم اليوم"، لعلها تكون شفيعا له يوم القيامة.

إن ما يتعرض له القضاء اليوم لهو أمر جلل يتطلب منكم الصدق مع النفس، وعدم خداعها بخيالات لم تعد تنطلي على أحد إلا في نفوس من بذرهم المقال أحمد الزند في صفوف القضاء، فصاروا كسرطان خبيث إن لم يستأصل فسيقضي على الأخضر واليابس. فما عليكم إلا أن تنجوا بأنفسكم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
 

وختاماً أقول لكم والحق أقول: إنكم أول من سيتحمل فاتورة ذلك الطغيان. فالتاريخ يكتب والشعب يسجل، ويوم الظلم لن يطول ويوما ما ستشرق شمس الحرية يقينا. وأول من سيحملكم الفاتورة هو من بعتم آخرتكم لأجله.. هو من خنتم الله ورسوله وخنتم أماناتكم لإرضائه.

أترى من يستخدم منديلاً ليتخلص من نجاسته هل تراه يحتفظ به ثانية؟ خذوا من التاريخ العبر تعلموا دروس الماضي، وثقوا أن أمر الله نافذ ووعده حق ولن يخلف الله وعده.

"وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ".

 اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل عليّ.