قضايا وآراء

أبعاد العملية التركية شرق الفرات

1300x600

مع قرار سحب الجنود الأمريكيين من نقطتي تل أبيض ورأس العين شمالي سوريا، يكون دونالد ترامب قد حقق انتصارا على الدولة العميقة في الولايات المتحدة ممثلة بوزارة الدفاع ومكتب الأمن القومي.

هذا الانتصار الداخلي في الساحة الأمريكية سيكون له تداعيات هامة في الساحة السورية، وأولى تلك التداعيات المباشرة هي العملية العسكرية التركية، لكن هناك تداعيات مضمرة تتناولها هذه المقالة.

العملية العسكرية التركية

من الواضح حتى الآن أن العملية العسكرية التركية ستكون محصورة بين مدينتي تل أبيض شمال الرقة ورأس العين شمال غرب الحسكة بطول نحو 150 كيلومترا، إلا أنه ليس معروفا مدى العمق الجغرافي لهذه العملية، هل ستكون كيلومترات قليلة أو تتجاوز الـ 30 كيلومترا وفق ما تطالب أنقرة به؟

ثمة معطيات تجعلنا نؤكد أن العملية العسكرية ستكون بعمق كبير يلبي المطالب التركية:

ـ تسريبات تركية تؤكد أن العملية العسكرية ستكون على ثلاث مراحل، ولو كانت العملية محدودة على الشريط الحدودي فقط، فلا يحتاج الأمر هذه المراحل الثلاثة.

 

الهدف التركي هو ضرب مشروع "الإدارة الذاتية" للأكراد في سوريا، وهذا الهدف لا يتحقق بتوغل تركي محدود، وإنما يتطلب عمقا يتجاوز الـ 30 كلم.


ـ حجم القوات التركية مع قوات فصائل المعارضة كبير ويتجاوز حدود السيطرة على شريط جغرافي ضيق.

ـ القصف التركي طاول مناطق واسعة على امتداد الشريط الحدودي، في ما يبدو أنه رسالة تركية بأن العملية العسكرية ستكون واسعة.

ـ استدعاء وزارة الخارجية التركية للسفير الأمريكي في أنقرة وسفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن من أجل شرح أبعاد العملية العسكرية، ويُفهم من ذلك أن ثمة عملية عسكرية كبيرة ربما تشابه العملية العسكرية التي جرت في قبرص عام 1974.

ـ أثبتت السنوات الثلاث الماضية تحقق ما يطالب به الرئيس التركي: عام 2016 أكد أردوغان أن تركيا ستدخل عسكرية الأراضي السورية وتم ذلك فعلا عبر عملية "درع الفرات"، ثم أعلن في تموز (يوليو) من نفس العام أن "درع الفرات" ستمتد إلى مدينة الباب شمال حلب، وفعلا دخل الجيش الحر المدينة في 9 كانون أول (ديسمبر) 2016، وفي نهاية 2017 أكد أردوغان أن تركيا وفصائل المعارضة ستدخل منطقة عفرين، وفعلا بدأت عملية "غصن الزيتون" في 20 كانون الثاني (يناير) 2018، ومنذ أربعة أشهر يعلن الرئيس التركي أن تركيا ستدخل شرق الفرات في وقت استبعد كثير من المراقبين تحقق ذلك، لكن الجيش التركي بدأ عمليته العسكرية قبل أيام.

بناء على هذه التجارب، يمكن القول إن المطالبة التركية بعمق 30 كيلومترا لم تعد مستحيلة، خصوصا بعد إعادة تموضع القوات الأمريكية في المنطقة.

ـ الهدف الرئيسي للعملية العسكرية ليس القضاء على ممر الإرهاب ووقف التهديد الكردي لتركيا وفق ما يتداوله المسؤولون الأتراك في الظاهر، فعمليا منذ نهاية عام 2016 لم يعد ثمة عمليات عسكرية كردية ضد تركيا بعدما منعت واشنطن الأكراد من ذلك.

الهدف التركي هو ضرب مشروع "الإدارة الذاتية" للأكراد في سوريا، وهذا الهدف لا يتحقق بتوغل تركي محدود، وإنما يتطلب عمقا يتجاوز الـ 30 كلم.

ـ توطين نحو مليونين سوري في المنطقة الآمنة المقرر إقامتها، وهذا العدد الكبير يتطلب السيطرة على مساحات جغرافية واسعة وقرى وبلدات عديدة.

مصاعب العملية

لا يمكن مقارنة القوة العسكرية التركية ـ ثان قوة في الناتو ـ مع "قوات سوريا الديمقراطية"، ومع ذلك لا يمكن الاستهانة بالقدرات الكردية التي امتلكت خبرة كبيرة في القتال خلال السنوات الماضية، وتمتلك مخزون أسلحة كبير ومتطور.

وستعمل القوات الكردية قدر المستطاع على تأخير تحقيق تقدم فعلي للأتراك في عمق الأراضي السورية، مع محاولة تكبيد الأتراك والمعارضة السورية خسائر بشرية قدر الإمكان.

وربما تستغل القوات الكردية التجمعات البشرية كنوع من الحماية أو ربما لدفع أنقرة إلى توجيه ضربات لهذه التجمعات ما يفاقم الأزمة الإنسانية، ويضع تركيا في حرج أمام المجتمع الدولي.

 

ستعمل القوات الكردية قدر المستطاع على تأخير تحقيق تقدم فعلي للأتراك في عمق الأراضي السورية، مع محاولة تكبيد الأتراك والمعارضة السورية خسائر بشرية قدر الإمكان.


وكان ترمب قد هدد بتدمير اقتصاد تركيا إذا قامت أنقرة بأي أفعال يعدّها تتجاوز الحدود خلال العملية العسكرية، والمقصود بهذه الأفعال التي تتعدى الحدود، أن لا تؤدي العملية التركية إلى إسقاط مدنيين، وأن لا تؤدي إلى عمليات تهجير واسعة للسكان، وأن لا تعطي فرصة لـ "داعش" بإعادة تكوين نفسه.

ومن المصاعب التي ستواجهها تركيا أن واشنطن أغلقت الأجواء أمام تركيا في شمال شرق سوريا، وهذا يعني أن المقاتلات الجوية التركية لن تستطيع العمل فوق الأجواء السورية، وإنما ستقصف من داخل الأراضي التركية.

التداعيات المضمرة

يشكل الانسحاب الأمريكي الجزئي فرصة لروسيا مهمة لروسيا من ناحيتين:

الأولى، أنها ستدفع الأكراد للتوجه نحو النظام السوري، مع ما يعنيه ذلك من خلط للأوراق المحلية.

الثانية، أن سابقة الانسحاب الأمريكي يمكن تكرارها في مناطق أخرى، وتعتقد موسكو أن ممارسة الضغط على الولايات المتحدة سيحقق لها ما تريده كما فعلت تركيا.

وفعلا بعد ساعات قليلة من سحب القوات الأمريكية، طلبت القوات الروسية من القوات الأميركية الموجودة في مدينة منبج إخلاء مواقعها من المدينة، تمهيدا لدخول قوات النظام السوري، 

وأشار مشروع Syrian Civil War Map عبر خريطته، إلى وجود تحركات عسكرية من قبل القوات الروسية وقوات النظام السوري باتجاه منبج.

ولا يستبعد أيضا أن يستغل الروس انكشاف ظهر القوات الكردية لشن هجوم يستهدف المناطق الكردية الجنوبية من ناحية مدينة الطبقة جنوب غربي محافظة الرقة ومناطق أخرى في ديرالزور.

تصريحات ترامب بأن الولايات المتحدة تحملت كثير من التكاليف، تزامنت مع مطالبته دول إقليمية ودولية تحمل مسؤولياتها، هذه التصريحات تشير إلى أن الانسحاب الأمريكي لن يقتصر في المستقبل القريب على مجرد نقطتين، بل ربما يتعداه إلى انسحاب كامل من الجغرافية السورية.

كاتب وإعلامي سوري