قضايا وآراء

ثورة العراقيين.. نحو تغيير لجوهر النظام الطائفي

1300x600
رغم أن المطالب الاقتصادية والاجتماعية هي المحرك الأبرز للتظاهرات الكثيفة التي عمت العاصمة العراقية بغداد ومحافظات الجنوب منذ الثلاثاء الماضي إلا أننا لا يمكننا فصل ما يحدث في العراق عن السياق الإقليمي والدولي وخاصة الموجة الجديدة للربيع العربي التي شملت دولا جديدة مثل السودان والجزائر، وتجددت في مواجهة الثورات المضادة في دول أخرى مثل مصر وليبيا وحتى سوريا.

خرج العراقيون يطالبون بتحسين أوضاعهم المعيشية، وتوفير فرص عمل للعاطلين، ومحاربة الفساد الذي استشرى في البلاد في حماية السلطة ورعاتها الإقليميين والدوليين، ولكن الحراك ما لبث أن التحم بشعارات الربيع العربي وبالأخص هتافه الأثير "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي انطلق من تونس في ثورة الياسمين (14 كانون الثاني/ يناير 2011) مرورا بثورة 25 يناير 2011 في مصر ثم الثورة اليمنية (11 شباط/ فبراير 2011)، والليبية (17 شباط/ فبراير 2011) ثم السورية (15 آذار/ مارس 2011)، ثم عاد ليملأ سماء السودان (بدءا من 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018)، وسماء الجزائر منذ 22 شباط/ فبراير 2019، وليعود مجددا إلى ميادين مصر في 20 أيلول/ سبتمبر 2019، ومنها إلى بغداد والمحافظات 

العراقية الأخيرة منذ الثلاثاء الماضي.

 

تتأثر الحواضر العربية الرئيسية ببعضها بشكل كبير، في نهضتها وحتى كبوتها. لن نغوض بعيدا في التاريخ القديم، فعندما اندلعت ثورة المصريين عام 1919 مطالبة بالدستور والاستقلال، تبعتها عدة ثورات وانتفاضات عربية، مثل ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال البريطاني في أيار/ مايو 1920، وثورة الريف في المغرب بقيادة عبد الكريم الخطابي في تموز/ يوليو 1921، وثورة السودان عام 1924 والثورة السورية الكبرى عام 1925. وحين بدأت موجة التحرر العربي من الاستعمار شملت العواصم العربية الكبرى في توقيت متقارب أيضا، وحين وقعت الموجة الأولى للربيع العربي منطلقة من تونس تبعتها عدة عواصم عربية أخرى، وبالتالي ليس مستغربا أن تمتد الموجة الثانية من الربيع العربي لتشمل عواصم عربية أخرى بعد الخرطوم والجزائر وبغداد، وستكون الجائزة الكبرى بالرياض وأبو ظبي.

 

 

ليس مستغربا أن تمتد الموجة الثانية من الربيع العربي لتشمل عواصم عربية أخرى بعد الخرطوم والجزائر وبغداد، وستكون الجائزة الكبرى بالرياض وأبو ظبي


تتسم الموجة الثانية للربيع العربي بالطابع الشعبي التام حتى الآن، وتتوارى التيارات والأحزاب السياسية، وهو ما ظهر بقوة في الجزائر ثم مصر، وأخيرا العراق، وكان ظهور القوى السياسية فقط لدعم الحراك والمساعدة في إنضاجه وتطويره، وجني ثماره لصالح الشعب، وكانت الصورة الأبرز لذلك في السودان بظهور تحالف أحزاب وحركات قوى الحرية والتغيير لتسيّد مشهد الاعتصام في ساحة القيادة العامة للقوات المسلحة، ثم التفاوض لاحقا باسم المتظاهرين مع المجلس العسكري الحاكم.

 

وظهر ذلك بصورة أقل في الجزائر، حيث لا يزال الحراك حريصا على استقلاليته عن بقية القوى السياسية التقليدية. وقد بدأ ظهور القوى السياسية والدينية في مشهد الحراك العراقي بعد يومين أو ثلاثة من بدء الحراك، حين دعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر نواب كتلته لتجميد عضويتهم في البرلمان تضامنا مع المتظاهرين، ودعا إلى استقالة الحكومة التي كان هو شخصيا داعما لها، كما خرج ممثل المرجع الشيعي علي السيستاني داعيا الحكومة (التي دعمتها المرجعية الدينية أيضا) للاستماع لمطالب الشعب. وبالتأكيد، ستظهر مواقف باقي الحزاب تباعا خاصة مع صمود المتظاهرين في مواجهة القمع الشديد الذي تعرضوا له وأوقع مئة شهيد وآلاف المصابين، وهو ما أثار صدمة كبرى لدى الشعب العراقي وقواه السياسية.

تجاوز الحراك العراقي التقسيم الطائفي، وشملت المظاهرات عموم العراقيين من السنة والشيعة، والذين رددوا معا هتافهم الأثير "إخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه"، وبذلك يفسد هذا الحراك على المتربصين أي محاولات للوقيعة بين الشعب على أساس طائفي. ومع هذا، فليس من المستبعد لجوء المتضررين من هذا الحراك، سواء في السلطة أو من يدعمها إقليميا أو دوليا، إلى أي عمل تخريبي ضد أحد المراقد الشيعية بهدف إثارة الصراع المذهبي وحرف الحراك عن وجهته الرئيسية، وتفتيته، بعد أن عجزت قوى الأمن النظامية عن قمعه.

 

 

 

ستتطور مطالب الحراك من محاسبة الفاسدين وإسقاط الحكومة الحالية؛ إلى المطالبة بتغييرات جوهرية في النظام السياسي العراقي القائم على المحاصصة الطائفية

من المفترض أن العراق يعيش هامشا ديمقراطيا أفضل من غيره من الدول العربية، لكنها ديمقراطية طائفية تعتمد على المحاصصة، والتي تجعل منصب رئيس الحكومة ذا الصلاحيات الأوسع للشيعة، ومنصب رئيس الدولة ذا الصلاحيات الرمزية للأكراد، ومنصب رئيس البرلمان للسنة، مع تقسيمة طائفية للوزراء والمناصب السيادية الأخرى، وهذا ما يجعل تركيز المسؤولين التنفيذيين أو نواب البرلمان هو الحفاظ على المكاسب السياسية والنخبوية، وتجاهل هموم الشعب الحياتية، والتغطية على أوجه القصور والفساد، حيث يدافع نواب كل طائفة عن الفاسدين من طائفتهم، ولذلك لم يجد الشعب العراقي أن هذه الديمقراطية الطائفية المشوهة قادرة على تلبية احتياجاته والتعبير عن همومه ومشاغله، فقرر أن يأخذ زمام المبادرة بنفسه دون توكيل لأحد، ودون حسابات طائفية. وعلى الأرجح ستتطور مطالب الحراك من محاسبة الفاسدين وإسقاط الحكومة الحالية؛ إلى المطالبة بتغييرات جوهرية في النظام السياسي العراقي القائم على المحاصصة الطائفية التي ملها الشعب، والتي تسببت في كل ما يمر به من مشاكل اقتصادية وسياسية.

 

 

الجيل الجديد الذي فجر هذه الموجة الثورية في العراق في معظمه ممن ولدوا أو ترعروا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو جيل يحمل غصة ضد الهيمنة الخارجية، سواء الأمريكية أو الإيرانية، على بلد عظيم مثل العراق؛ كان يوما عاصمة الخلافة التي لا تغرب عنها الشمس. ولذلك، فإن هذا الشعور هو أحد المحركات الرئيسية للتظاهر إلى جانب البطالة والفساد، وهذا الشعور لا يقتصر على سنة العراق، بل يمتد إلى قطاعات كبيرة من الشيعة أيضا. ولذلك، فإن الحراك الحالي يضم عموم العراقيين من السنة والشيعة على خلاف حراك 2013 الذي تصدّره السنة، فتم القضاء عليه عبر فزاعة داعش، وهذا ما لا يمكن اللجوء إليه اليوم لوجود أو حتى غلبة العنصر الشيعي على الحراك.