كتب

هل تخترق الرؤى المنصفة للإسلام هيمنة أطروحة العداء للغرب؟

كتاب جديد يعيد طرح السؤال عن واقع وآفاق العلاقة بين الإسلام والغرب (عربي21)

الكتاب: الإسلام والغرب: من إيديولوجيا الصدام إلى جدلية النزاع
المؤلف: جوسلين داخلية
ترجمة خالد بن الصغير
الناشر: مؤسسة الملك عبد العزيز بن سعود الدار البيضاء
الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات: 330

تواترت كتابات ودراسات كثيرة في الآونة الأخيرة تبحث علاقة الإسلام بالغرب، أو ترصد بنفس بحثي أو استطلاعي مزاج الإسلام تجاه الغرب، أو مزاج الغرب تجاه الإسلام، لكن أحدا لم يجرؤ من داخل البنية الفكرية الغربية، على اختراق الهيمنة الشاملة التي تفرضها المؤسسات الإعلامية والغربية، لاسيما منها الفرنسية، ومحاولة إنتاج رؤى مغايرة لما تنتجه هذه المؤسسات بخصوص علاقة الإسلام بالغرب.

والمثير للانتباه، أن عددا من التجارب النقدية في قراءة الإسلام، وعلاقته بالحضارة الغربية، قد لقيت ممانعة أكاديمية شديدة، مثلما حدث لإنتاجات روجي جارودي، الذي لم يجد دار نشر فرنسية واحدة تحتفي بنشر كتاباته بعد مساره النقدي، وتحوله إلى التفكير من دائرة الإسلام. 

 

أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط المسلمة، على وجه الخصوص، قد تشكلت الواحدة منهما تلو الأخرى في سياقات تمازج مستمر


والحقيقة أن كتاب "الإسلام والغرب" لجوسلين داخلية، لا يرقى من حيث صدمته لهذه المؤسسات الإعلامية والثقافية الفرنسية لمستوى ما حملته أفكار جارودي، الذي توجه رأسا إلى نقد الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية، لكن مع ذلك، فهو يمثل حلقة مهمة من الحلقات الأكاديمية التي تحاول أن تتحرر من ضغط وإكراهات المؤسسات الهيمنة على ساحة إنتاج الأفكار الخاصة بالعلاقة بين الإسلام والغرب، فيكفي أن هذا الكتاب "الإسلام والغرب: من إيديولوجيا الصدام إلى جدلية النزاع" جاء في سياق رصد وتحليل مختلف القضايا المرتبطة بالإسلام، والإسلام السياسي عقب ثورات الربيع الديمقراطي في العالم العربي، من زاوية نقدية مغايرة، للسائد ثقافيا وسياسيا وإعلاميا في فرنسا. ولعل هذا ما يفسر حجم التعتيم على أفكاره، وضيق دائرة الاهتمام الإعلامي به، فالمؤسسات الإعلامية والثقافية الفرنسية، تبدو أكثر ضيقا من خروج أفكار أخرى عن الإسلام أو "الإسلام السياسي"، غير تلك التي تحاول بشكل مستمر أن ترسخها في المزاج العاطفي والفكري الفرنسي.

رؤية مختلفة للعلاقة بين الإسلام والغرب 

على أن هذا التعتيم أو التغطية الفرنسية عن مثل هذه الأعمال الأكاديمية النقدية الجادة، لا تستمد مبرراتها من كون الباحثة جوسلين داخلية، أصبحت تتحدث من نفس الموقع الذي يتحدث منه الذين يفكرون بخلفية الإسلام أو بخلفية الإسلام السياسي، وإنما يستمد مبرره في اختلاف زاوية النظر للإسلام، ولعلاقة الغرب به، فالباحثة تفكك بنفس بحثي أكاديمي علاقة الإسلام بالغرب في سياقها التاريخي التكاملي، وتدافع بقوة عن أطروحة أخرى غير أطروحة الصراع، ووجهة نظر أخرى غير وجهة نظر العداء، فتحاول من خلال بحث علاقة شمال المتوسط بجنوبه، التركيز على الأدوار التكاملية المتبادلة التي قام بها الغرب والإسلام، وتؤسس لفكرة عميقة، ترى فيها أن الإسلام يشكل جزءا لا يتجزأ من التاريخ والتكوين الأوروبي، كما أن الغرب هو أيضا أسس جينات ثقافية راسخة في الثقافة العربية الإسلامية المعتمدة في جنوب المتوسط. 

تتابع الباحثة بنفس نقدي حاد، مجمل الكتابات الفرنسية التي أصبحت تتمحور حول مفهوم الهوية والنقاء والطهرانية الوطنية، وتعتبر أن هذه الرؤى تنتهي في الأخير إلى عنصرية قاتلة، مثل العنصرية التي انتهى إليها بروديل مؤرخ عالم البحر الأبيض المتوسط، لأن المنطلقات الأكاديمية لهذه الكتابات، تخفي بعدا سياسيا، يتأسس على الخوف من موجة اكتساح الغازي الثقافي (ممثلا في الإسلام) للتراب الوطني، ويحاول بناء نموذج دولة أوروبية ثابتة مستقرة يقع التشكيك في ثوابتها الوطنية من الداخل (من المسلم الأوروبي الذي يمثل انحطاط العالم العربي).

 

المبادرة التي استهدفت إنشاء مجلس فرنسي للديانة الإسلامية فشلت في التخفيف من حدة التوترات، وظلت الأهداف المتحققة من ورائها بعيدة المنال.


تنتقد الباحثة بكل قوة مفهوم "الانحطاط" الذي توسم به البيئة العربية والعقل العربي، وتعتبر أن التغير الجيوسياسي الذي وقع في العالم الغربي، لجهة تقليص الاهتمام بالعرب، قد أعاد للأذهان فكرة انحطاط العالم العربي، معتبرة أن هذا المفهوم أصبح اليوم محل تساؤل ونقد كبيرين في أوساط المؤرخين، وأن الدراسات العثمانية لم تكن وحدها السبب في إعادة هذا التقييم، وإنما أيضا الدراسات في المجال العربي، لاسيما تلك التي تركز على تاريخ العلوم، إذ ساهمت دراسات خالد الرويحب في إعادة التقييم الشامل لمفهوم الانحطاط، وذلك من خلال تركيزه على مكانة علوم المنطق في المغرب وحيويتها في القرن التاسع عشر.

وترى الباحثة أن هذه الجهود التي اندرجت في سياق إعادة التقييم الشامل لمفهوم الانحطاط العربي، سمحت بإظهار أهمية كسر الحواجز وإزالة العقبات أمام مجتمعات أصبحت لديها القابلية للتفاعل المتبادل في سياقات يسودها كثير من التناغم، وذلك قبل بداية حركة التوسع الإمبريالية في القرن التاسع عشر. 

وكما هو الشأن مع فكرة الانحطاط المتعلقة بحقبة من العصور الوسطى الغربية، التي لم يبق لها أي معنى على مستوى الكتابات التاريخية، تعتبر الباحثة أن فكرة الانحطاط التاريخي فيما يتصل بمنطقة البحر الأبيض المتوسط أمام ازدهار المحيط الأطلسي، قد ثبت عدم صحتها لدى المؤرخين ووقع التخلي عنها منذ سنوات عديدة، وإنه لهذا السبب وجب التخلي عن فكرة الانحطاط في العالم العربي الإسلامي. وحيث إنه لم يكن هناك انحطاط، فإن مقولة "قابلية الخضوع للاستعمار"، أو "قدرية الاستعمار"، هي الأخرى، في نظر الباحثة، فكرة خاطئة، وأن الحاجة تدعو لقراءة مجموعة من المفاهيم التي تربط بين الانحطاط وحتمية الحركات الإصلاحية، أو بين استبدادية القرن العشرين ونشأة حركات الإسلام السياسي. فمثل هذه القضايا، حسب الباحثة، تحتاج إلى أن تقرأ بطريقة مختلفة، ولا ينبغي النظر إليها من منطلق العواقب المنطقية لمجتمعات لحقها الانهيار، بحكم عدم قدرتها على مواكبة واقع العالم المعاصر وتقلباته.

واقع الانسداد في الرؤية الفرنسية لعلاقة الإسلام بالغرب

تعبر الباحثة بكل جرأة عن موقفها تجاه الرؤية الفرنسية التي رسختها المؤسسات الإعلامية والثقافية الفرنسية بخصوص علاقة الإسلام بالغرب، وترى أنها أفضت إلى نسق مغلق في التفكير، وأن المبادرة التي استهدفت إنشاء مجلس فرنسي للديانة الإسلامية فشلت في التخفيف من حدة التوترات، وظلت الأهداف المتحققة من ورائها بعيدة المنال.

وتطرح الباحثة مفارقة عجيبة، إذ في الوقت الذي تتضخم فيه الكتابات والدراسات حول مسألة العلاقة بين الإسلام والغرب، يزداد المأزق أكثر، وتتعقد التوترات وتحتد أكثر مما مضى، وترجع الباحثة سبب هذا الفشل إلى كون مخرجات هذه الإسهامات الفكرية والأكاديمية تصب في اتجاه تشكيل وإنتاج تصور عن حضارات، باعتبارها تكتلات متماسكة وكيانات مسلحة ومميزة بشكل كامل، مع امتلاكها لثقافة محددة، وأن هذا ما يضفي عليها اعتماد منطق التكتلات.

 

التوترات التي تحصل بين الثقافتين أو العالمين، لا يمكن نسبته للإسلام في الوقت الذي تحاول فيه العولمة فرض نفسها بقوة

 
وتبرر الكاتبة مقاربتها وزاوية رؤيتها الجديدة بكون كتابها يأتي في سياق السعي لخلخلة هذه المقاربة التقليدية، وكسر نهجها القائم على النظر للثقافات باعتبارها قطعة فسيفساء أو طاولة لعبة الشطرنج، وتعبر بدلا عن ذلك أن هذه المقاربة، لا تعكس حقيقة الطبيعة التاريخية للحضارات والثقافات، المتسمة بخصائصها المركبة والممتزجة، بما في ذلك في أثناء لحظات الصراع، وأنه لهذا الغرض، وجب مراجعة مفهوم الثقافة ذاته، بغية إعادة النظر فيه، كخطوة أولى على درب معالجة مختلفة لمشكلة ما يسمى بصدمة الإسلام، وأن هذا الأمر لا يخص فقط المجتمع الفرنسي، بل يخص المجتمع الأوروبي والغربي عموما.

الحضارات تشكلت في سياق التمازج المستمر

تؤكد الباحثة في أطروحتها أن أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط المسلمة، على وجه الخصوص، قد تشكلت الواحدة منهما تلو الأخرى في سياقات تمازج مستمر، بدءا بالاختلاط الموغل في القدم بين السكان، وترى الباحثة أن الأمر لا يقتصر على مجرد مدح إسهامات الإسلام الإيجابية، وتعداد فائدتها إلى الحضارة الغربية في مختلف مجالات المعرفة كالطب والفلسفة والرياضيات والشعر الغنائي، فهذه الرؤية، في نظر الباحثة، يقصد منها الحفاظ على إثبات الدين الإسلامي تجاه أوروبا، أو إثبات أفضلية طرف على طرف، وأن الأولى من ذلك، هو محاولة طرح السؤال من جديد، سؤال العلاقة بين الإسلام والغرب، وذلك من زاوية التركيز على الحركية المتسمة بالاستمرارية وعدم الانقطاع بين ضفتي المتوسط، مع مراعاة خاصية الغيرية بين أوروبا والإسلام، وأن هذه المقاربة الجديدة والنقدية، من شأنها أن تيسر عملية إعادة صياغة العلاقة بين الكونية والنسبية الثقافية، التي أصبح يتم التركيز عليها في الراهن الحالي. كما من شأن هذه المقاربة الجديدة إعادة النظر في مفهوم التغريب نفسه، الذي أصبح ينظر إليه كما ولو كان عملية استلابية من الغرب تجاه العالم العربي الإسلامي.

فكرة الباحثة الرئيسة المركزية، أن أوروبا والمجتمعات العربية الإسلامية التي تستقر بجنوب البحر الأبيض المتوسط، عاشا في تمازج مستمر، بحيث صار من الصعب بناء حدود فاصلة بين الثقافتين في شمال المتوسط وجنوبه، وأن التوترات التي تحصل بين الثقافتين أو العالمين، لا يمكن نسبته للإسلام في الوقت الذي تحاول فيه العولمة فرض نفسها بقوة. فمجمل هذه التصورات الحدية، التي تنتظر لأحدث الطرفين في تبرير هذه التوترات وتفسيرها، تنتهي في نهاية المطاف ـ حسب الباحثة ـ إلى إنكار حقائق تاريخية مترسخة، مثلما ما يقع في أوروبا وفرنسا على وجه التحديد من الإنكار العميق والمترسخ تاريخيا للإسلام، وهو ما يدفع إلى مزيد من إشعاعه والمساهمة في إذكائه وإعادة تنشيطه، مما يساهم في المحصلة إلى خلق صراع هوياتي جديد، كما يساهم في دفع أوروبا إلى إعادة تشكيلها السياسي بناء على قاعدة الهوية، بحيث تتناسل التيارات اليمينية وتنتعش الطروحات العنصرية.

ولذلك، تقترح الباحثة عوضا عن هذا السيناريو الخطير، الذي من شأنه إذكاء مزيد من التوتر بين الضفتين، الاشتغال على إعادة التشكيل السياسي لأوروبا بناء على استثمار التاريخ المشترك بين الحضارتين وعملية التمازج المستمر بين الثقافتين، حتى في فترات الشد والجدل المحكومة بمنطق النزاع.