كتاب عربي 21

ملاحظات أوّليّة على حراك 20 سبتمبر

1300x600
خرج المقاول المصري "محمد علي" مطلع شهر أيلول/ سبتمبر ليتحدث عن حقوق مالية له لدى إدارة الهئية الهندسية في الجيش المصري، وهي الهيئة التي تُسنَد إليها أغلب مشروعات الإنشاءات الكبرى في مصر، وخلال حديثه عن حقوقه المالية، أورد مظاهر لعبث مؤسسة الرئاسة بالمال العام، استجابة لرغبات زوجة السيسي أو أحد أصدقائه، ما سبّب انتشارا واسعا وغير متوقَّع للفيديوهات التي ينشرها "علي"، خاصة كشفه للبذخ الذي ينفق به السيسي على قصوره، مع تأكيده الدائم أن مصر دولة فقيرة، وأنه لا يقدر على زيادة المرتبات بسبب ضعف الإمكانيات المالية المتاحة. وكان الانتشار والقبول الذي حازه "علي" مثيرا للانتباه؛ إذ لم يُرفق الرجل مستندا واحدا يُعضّد كلامه.

انطلقت الأذرع الإعلامية التابعة للنظام المصري على الفور لتشويه "علي"، واستضاف أحدهم والده الذي أعلن رفضه لسلوك ابنه، وتوالت فيديوهات "علي"، مع تشويه إعلامي شرس في كافة الأجهزة الإعلامية لدولة بأكملها، وكانت النتيجة متابعات شديدة الاتساع لما يقوله "علي" بحق العبث بالمال العام داخل الجيش، وبحق رأس النظام، والجديد هذه المرة بحق عائلته التي دخلت تحت دائرة ضوء شديدة التركيز بصورة غير مسبوقة ومحرجة.

تصاعدت التقارير إلى السيسي، ويبدو أنها كانت تشير إلى إشعال "علي" حالة الغضب بسبب الوضع المتردي المتزامن مع بذخ وسفه يرتبط بالمال العام، وما يقوم به السيسي مجاملة لزوجته أو أصدقائه، فقرر السيسي أن يرد بنفسه في مؤتمر عام.

بدا السيسي منفعلا ومهتزا وهو يتحدث عن أثر تلك الدعايات على الجيش وضباطه وهم يسمعون عن فساد "قائدهم الأعلى"، وتحدث بسخرية وأداء تمثيلي عن رد فعل الإعلام أمام تلك الأزمة، كما تحدّث عن طلب الجهات الأمنية منه ألا يتحدث عما يُقال، لكنه (باعتباره طبيب الفلاسفة) أصرّ على الحديث، فهو "الشريف والأمين والمخلص"، ثم كانت المفاجأة أنه تحدّث دون تفنيد للوقائع، بل قال بعناد وتحدٍّ إنه بنى وسيبني قصورا أخرى، ليعطي الضوء الأخضر لمحمد علي ليقوم بخطوته التالية.

قام "علي" بالتقاط طرف الخيط سريعا، واعتبر السيسي معترفا بما قاله بحقّه، ودون مقدمات طالب المصريين بالنزول للتظاهر ضد السيسي يوم الجمعة 20 أيلول/ سبتمبر لإسقاطه، ليلقي حجرا كبيرا في مياه راكدة منذ سنوات.

كان الطبيعي أن دعوة "علي" لن تلقى استجابة في الشارع، فطبيعة التظاهرات أنها تحتاج إلى تنظيم يقوم بتحديد أماكن التجمعات، وتحديد مواعيد بدئها وطبيعة تفاعلاتها وقرار إنهائها، لكن لم نجد تنظيما سياسيا تفاعل مع الدعوة بالإيجاب. ورغم غياب التنظيم "ظاهريا"، وجدنا تظاهرات في ميدان التحرير ومحيطه، بل استمرت التظاهرات إلى ما قبل فجر اليوم التالي، الأمر الذي لا يمكن التعامل معه باعتباره مجرد استجابة شعبية لدعوة فرد خارج مصر.

كانت التظاهرات في القاهرة مثيرة للتأمل، فالتجمعات التي يتم فضّها كانت تتجمع مرة أخرى بدأب وإصرار واضحيْن، رغم الاعتقالات التي عرفنا (بعد ذلك) أنها تجاوزت ألف معتقل يومها. وكان مُلاحظا أن هناك أفرادا يقفون خلف التجمعات المتظاهرة ليقوموا بتوجيه المُطاردين من قِبَل قوات الأمن إلى شوارع آمنة، كما كانت تتحرك سيارات في محيط ميدان التحرير تقوم بنقل التفاعل عبر السيارات بآلات التنبيه بمجرد سماع صوت تظاهرة أو تعطيل حركة قوات المن، وهذه الأمور مجتمعة تشير إلى وجود تنظيم تحرك في هذا اليوم على الأرض، رغم الكُلفة المتوقّعة ودُفع جزء منها بالفعل، فما هذا التنظيم المجهول؟

يمكن القطع بأن التنظيم الذي تحرّك يوم 20 أيلول/ سبتمبر ليس تنظيما سياسيا معروفا، وإلا لقامت قوات الأمن باستهداف قيادات وقواعد هذا التنظيم قبل يوم التظاهر وبعده، لكن الاعتقالات توجهت إلى المشاركين أو الذين توجهوا عَرَضا في ذلك المكان يومها، واعتقالات حزب الاستقلال ارتبطت بدعوته للتظاهر بعد نجاح اليوم، واعتقالات السياسيين كذلك لا تشير إلى اعتقالات تنظيمية، بقدر ما تشير إلى اعتقالات سياسية بقصد كتم الأصوات التي تكلمت في وقت شديد الحساسية بالنسبة إلى نظام السيسي. فلا توجد اعتقالات لتنظيم أو أكثر بشكل مكثّف، مما يعضّد الادعاء بأن التنظيم الذي شارك ليس تنظيما تقليديا، والملفت أنه كان شديد التنظيم كما سبقت الإشارة إلى سلوكياته في ذلك اليوم، مما يعمّق التساؤل حول طبيعته وقياداته.

ثَمّة ملاحظة أخرى تتعلق بأداء قوات الأمن في ذلك اليوم، إذ جرت العادة في السنوات الأخيرة، أنها لا تقبل نزول أحد إلى ميدان التحرير للتظاهر، لا سيّما إذا كانت موجهة ضد السيسي، لكنها في ذلك اليوم أبدت تواجدا أمنيا غير كثيف في الميدان ومحيطه. وعقب اندلاع التظاهرات ازداد السلوك الأمني غرابة، فكانت قوات الأمن تسمح بوجود تجمعات داخل وخارج الميدان دون تفريقها، ولا تتحرك إلا إذا قامت إحدى المجموعات بالتظاهر والهتاف، فتقوم بفضّه دون عنف شديد، كما كان يحدث مع تظاهرات سابقة، كما أن الإجراء المعتاد في تلك الحالة إغلاق محطة المترو الواقعة داخل الميدان، وهو ما لم يحدث كذلك يوم 20 أيلول/ سبتمبر، فكان هناك سلوك أمني غير مفهوم على مدار ذلك اليوم، وتم التراجع عنه تماما في جمعة 27 أيلول/ سبتمبر.

كانت جمعة 27 أيلول/ سبتمبر نموذجا للسلوك الأمني المعتاد في التظاهرات؛ إغلاق محطة المترو داخل الميدان بالإضافة إلى إغلاق عدة محطات محيطة به، وجود كمائن أمنية أقرب (في كثرتها) من كمائن يوم جمعة الغضب في كانون الثاني/ يناير 2011، بالإضافة لاعتقالات واسعة لكل من يتواجد في محيط الميدان، وسبقها بأيام اعتقالات عشوائية وتفتيش في الهواتف المحمولة والبطاقات الشخصية بالشوارع. ومع تركيز قوات الأمن في الوجه البحري والقاهرة، خرجت التظاهرات من أقصى الصعيد في مفاجأة جديدة للحراك، لكن الرسالة الهامة في ذلك اليوم، أن نجاح السيسي في ذلك اليوم يدلل على حاجة الخارج لتحرك معارضة الداخل، وهذا الفصام ليس مفيدا لفرصة هامة كتلك.

اعتاد محمد علي أن يقول في رسائله للسيسي كلمة "game"، وهي كلمة متداولة في الاستعمال الدارج المصري، لكننا نجد أنفسنا بالفعل أمام تلاعب بالنظام المصري، بدءا من إهانته وكشف أوجه فساده، انتهاء بسياسات التعامل معه سواء إعلاميا أو على الأرض. فنحن أمام مؤشرات ترجح أننا لا نشاهد رجلا بمفرده يواجه نظاما قمعيا ودمويا، بل أمام ما هو أكثر من رجل يفعل ذلك وحده، وكان مهماً مشاهدة "واجهة الحراك" وهو يؤكد أن الحراك لم يقف وأن هناك جولات جديدة، وهو ما يختلف مع الدعوة التي خرجت أواخر 2016 باسم "حركة غلابة" التي كانت عبارة عن دعوات متصاعدة، وفجأة اختفت واختفى مُطلقها، فالحالة هنا تشير إلى استمرارية رغم إخفاق ظاهر في إحدى جولاتها.

ما يثير التأمل كذلك، الصمت المطبق للمعارضة المصرية بالداخل، وعدم تفاعلها مع الحراك، فلم تخرج صور دعم سوى من حزب الاستقلال وحركة الاشتراكيين الثوريين، مع غياب كامل لباقي الأطراف المصرية في الداخل، ربما كان مبررهم أن شكل الحراك يشير إلى أنه "ناتج عن صراع أطراف داخل النظام مع بعضها"، مع أن هذه الأطراف قبلت ذات يوم أن تكون أداة في يد الأجهزة المنية خلال صراعها مع بعضها في الفترة بين 2011 إلى منتصف 2013، فكانت هذه الأطراف أداة هدم للمسار الديمقراطي بعنادها أو انتهازيتها، وجاءت هذه المرة فرصة تحالف مع أجنحة داخل النظام "بحسب تفسيرهم لطبيعة ما يجري"، ولكنه تحالف يهدف إلى إزاحة أكبر عقبة في مسيرة الوطن.

إن ما تمر به مصر "والمنطقة بالتبعية" منعطف بالغ التعقيد والحساسية، يحتاج إلى قيادة رشيدة للحراك تدرك أهمية تفاعل قوى الداخل (رغم عيوبها) مع ما يحدث، ويحتاج إلى معارضة في الداخل تدرك حساسية الفرصة وآثار ضياعها عليهم من القمع والتنكيل قبل أن تقع هذه الآثار على من أوجد الفرصة. كما يحتاج من معارضة الداخل أن تُعلي من قيمة الصالح العام على النوازع الشخصية، خاصة اعتبار أن الحراك لم يخرج من دوائرهم المعروفة، لذا ينبغي تجاهلها إلى أن يتم التواصل معهم، فمن شأن الاستعلاء أن يضيع فرصة غير معلوم متى تكرارها، ومن شأنه أن يزيد من عمق الأزمات التي يمر بها المصريون جراء حكم غير رشيد.