أخبار ثقافية

المدن الفاضلة: أربعة تواريخ مختلفة (1-4)

هل تصور أفلاطون عن المدينة الفاضلة هو الأحسن؟ - جيتي

 لجأ عدد من الفلاسفة ورجال الدين عبر التاريخ إلى بناء نظرية مثالية للعالم، كتعويض عن الواقع الذي يعيشونه ويرفضونه، فكان أفلاطون (427ـ 347 ق.م)، أول من أسس المدينة الفاضلة في كتابه الجمهورية، ثم تبعه في ذلك القديس أوغسطين (354- 430 م) من خلال كتابه مدينة الله، وفي الحضارة الإسلامية كان الفارابي (872- 950 م) رائد المثالية السياسية عبر كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة، واختتمت المدن المثالية مع توماس مور (1478- 1535 م) من خلال كتابه اليوتوبيا.

وإذا كانت هذه الكتب تتفق فيما بينها بأنها محاولة لتجاوز الواقع القائم، من أجل بناء عالم أفضل، فإن الأسباب التي دفعت كل واحد منها لذلك مختلفة تماما.

أفلاطون

تربى أفلاطون ضمن عائلة أثينية كبيرة لها ميول ليبرالية، أثرت بشكل واضح على تفكيره، فكان مندفعا في شبابه للمشاركة في الشأن العام.

شاهد أفلاطون سقوط حكم الثلاثين على إثر هزيمة أثينا، وعاين الحكم الديمقراطي بكثير من التفاؤل، لكن هذا الحكم، أصدر قرارا بالموت مسموما على أساتذه سقراط عام 399 ق.م، الأمر الذي شكل له صدمة عاطفية ثم سياسية، جعلته لا يثق بأشكال الحكم القائمة.

يقول أفلاطون:

أخيرا، فهمت أن كل المدن الحالية
تحكم بطريقة سيئة، لأنـــه لا أمل
في شفاء تشريعاتها.

يستخدم أفلاطون في محاوراته المتعددة شخصية سقراط لانتقاد آراء الآخرين وتقديم نظريات فلسفية في الميتافيزيقا والسياسة، وهي في الحقيقة آراؤه هو وليست آراء سقراط.

أهم هذه المحاورات هي الجمهورية، وكان هدف أفلاطون من تأليفها، تبيان كيف ستتصرف المدينة حين يجري فيها التعبير عن فكرة الخير والعدالة على أفضل وجه ممكن.

 

اقرأ أيضا: قصة ذيل.. خلطة الفنتازيا والكوميديا في فيلم علم الحيوان

المدينة كتجمع بشري، هي حاجة ضرورية بسبب عجز الإنسان عن كفاية نفسه بنفسه، والمهن المتنوعة تكفي الناس حاجاتهم، لكن هذا لا يكفي لكي تكون المدينة عادلة، فهي بحاجة إلى أسمى المهن، أي إلى حاكم، وهذا الحاكم، يجب أن يجمع بين القيمة العسكرية-السياسية وبين قيمة الفلسفة، ووحدهم الفلاسفة ـ الملوك هم القادرين على الجمع بين القوة السياسية والفلسفية.

في هذه المدينة يصبح التراتب طبيعيا، من الأعلى إلى الأسفل: الفلاسفة الملوك، يعقبهم المحاربون ثم الحرفيون والتجار، وهو تقسيم يشابه تقسيم النفس البشرية: العقل، الشجاعة، الشهوات.

هذا التراتب هو عين الطبيعة أو عين العدالة، حسب أفلاطون، لأن العدالة ليست سوى بقاء كل واحد في مكانه بحسب مؤهلاته.

كيف يمكن تحقيق العدالة؟ يبدأ أفلاطون بالتربية العامة، وهي على مرحلتين؛ مرحلة تكوين المساعدين لغاية سن العشرين، ومرحلة تكوين الفلاسفة-الملوك.

المرحلة الأولى، تتطلب التربية الجسدية الرياضية وتربية النفس على الموسيقى، من أجل تهذيب هذه الفئة.

المرحلة الثانية، تبدأ بتكوين الحراس الكاملين أو الفلاسفة-الملوك، المنتقين بعناية، ولا يكتمل هذا التكوين إلا في سن الخمسين.

في هذه المرحلة التي تمتد من سن العشرين إلى سن الخمسين، يتم فيها تعليم هذه الفئة على الرياضيات والهندسة وعلم الفلك وعلم الإيقاع، كمقدمة للانتقال إلى تعلم الديالكتيك/ الجدل.

بعد ذلك، وحين يصبحون في سن الخامسة والثلاثين، تبدأ الخطوة الأخيرة ومدتها خمس عشرة سنة، يتم على أثرها اختيار الفلاسفة-الملوك، القادرين على رؤية الخير في ذاته.

ومع ذلك، فالتربية لا تكفي وحدها للوصول إلى العدالة، إذ لا بد من ترتيبات مادية-اجتماعية أيضا، فاقترح أفلاطون نظاما للمشاعية: مشاعية الأموال ومشاعية النساء والأطفال، وهو نظام محصور فقط بالحراس وليس بالطبقة الاقتصادية.

السبب في هذه المشاعية، هي أن أفلاطون كان يرى في العائلة مضادا طبيعيا للمدينة، كما هو الحال في الملكية الخاصة، حيث يهتم الشخص بأملاكه فقط، ولا يهتم بأملاك الآخرين.

ومن المهم القول هنا، إن أفلاطون لم يكن ينظر إلى مدينته الفاضلة على أنها نوع من الخيال، فقد كان يعتقد بإمكانية تحقيقها، ولذلك استلهم بعض أفكار المدينة الفاضلة من معطيات عصره الواقعية، متأثرا بنظام الدولة الإسبارطية، وفي هذا النظام كان الفرد يتبع للدولة، وكان الأفراد يربون تربية عسكرية، وكان هناك نوعا من المشاعية الزوجية، وكانت الملكية الخاصة غير موجودة.

لكن، في حين كان النظام الإسبارطي يسعى من وراء ذلك إلى تقوية الجسد من أجل تحقيق القوة، كان أفلاطون يسعى إلى تقوية الفضيلة وتحقيق العلم والفلسفة.

وأخيرا في هذه المدينة لا حاجة للقانون، لأن القانون لن يدرك ما هو الأفضل والأعدل، وحده الفيلسوف الملك هو القادر على ذلك، فبوجوده لا داعي للقوانين.

تتأسس المدينة الفاضلة على ثلاثة مراحل:

ـ المدينة المفيدة لصحة الجسم: في هذه المدينة تُشبع الحاجات الأولية للجسم، ويتطلب ذلك أن يمارس كل شخص صناعة واحدة من أجل استكمال الحاجات، وهذه المدينة لا تعرف الفقر ولا تعرف الحرب ولا تحتاج إلى حكومة.

ـ المدينة الطاهرة: لا تظهر هذه المدينة إلا بعد انهيار المدينة المفيدة، ويحدث انهيارها عن طريق التحرر من الرغبة في الأشياء غير الضرورية، وهكذا تنشأ مدينة الترف، ولا يعود الأشخاص يمارسون صناعة واحدة، ولذلك تنشأ الصراعات، والحاجة إلى حكومة تستعيد العدالة.

ـ مدينة الجمال: وهي المدينة التي يحكمها الفلاسفة، وفيها تتحقق العدالة بالكامل.

أشكال الحكم

كره أفلاطون الحكم الطغياني كما كره الحكم الديمقراطي الذي كان وراء قتل سقراط، وكان سببا في منح السفسطائيين مساحة لنقد التقاليد، والحكم الأفضل يجب أن يكون بين أيدي المقتدرين.

بالنسبة له، فإن المدن التيموقراطية (حكم على أساس الثروة والمجد) والأوليغارشية (حكم القلة) والديمقراطية (حكم الشعب) هي أنظمة فاسدة تدفع المجتمع نحو الاستبداد.

في النظام التيموقراطي، يسيطر الجانب الروحي، وهدف النظام يكون تكريس مفاهيم المجد والشجاعة التي تعكس مكانة الطبقة الحاكمة.

وفي هذا النظام، هناك من يسعى إلى اقتناء ما يمكن اقتنائه من الثروة، في مقابل من يستعرض الميول الأرستقراطية التي تملي حكم الفضيلة، وفي النتيجة يحدث صراع بين الطرفين، فتنتهي الأمور إلى إقامة الملكية الخاصة للأرض واستعباد الفلاحين.

النظام الثاني هو الأوليغارشية، وهو نظام يتحول فيه حب النصر والمجد إلى حب المال، هنا تسيطر الشهوة على الأقسام الأخرى للنفس، حيث يصبح المال أعلى قيمة من الفضيلة، وفي هذا النظام تصبح السلطة من نصيب ذوي الأملاك، أما الفقراء فيستبعدون نهائيا من الحكم.

هذا الواقع سيؤدي بالفقراء إلى الثورة وتحقيق النظام الديمقراطي، ويتحقق عندها لكل شخص المشاركة في الشأن السياسي، وسرعان ما تتحول النظم الديمقراطية إلى مجتمعات يتاح فيها اشتهاء ليس الحاجات الضرورية والأساسية فحسب، بل أيضا الخيرات غير الضرورية، وفي هذه البيئة يفتقد الناس إلى ضبط النفس، ومن ثم يتم الإفصاح عن جميع الملذات.

أخيرا، هناك حكم الطغيان، وهو نظام ناشئ عن الديمقراطية ومرتبط بصيغة من الشهوة بلا قانون، لأنها تستبعد العقل وتعلي من شأن الرغبات.

ومما يلفت الانتباه، أن أفلاطون وضع ترتيب النظام الديمقراطي قبل النظام الطغياني، بحيث يؤدي الأول إلى الثاني، وهو أمر مخالف للترتيبات التاريخية، حيث تأتي الديمقراطية بعد الطغيان.

والسبب في ذلك، أن أفلاطون كان بحسب جان جاك شوفالييه يرسم الصيرورة المنطقية وليس التطور الواقعي، إنها السيرورة المنطقية لفساد داخلي.

الدساتير

في أواخر حياته، بدأ أفلاطون في تغيير موقفه من المدينة الفاضلة، وبدا أكثر واقعية، ففكرة غياب القانون لصالح الفيلسوف-الملك بدت فكرة مفرطة في المثالية.

وهذا التغير فرض عليه إعادة التفكير بأنواع الحكم ودساتيرها، مساوئها ومحاسنها، وأي منهما مطابق للشرعية.

ورأى أن كل الدساتير يمكن أن تكتسي طابعا منتظما أو طابع غير منتظم، فحكم الفرد الواحد، يمكن أن يكون ملكية خاضعة للقانون، ويمكن أن يكون حكم طغياني، وحكم القلة، يمكن أن يأخذ شكلا أرستقراطيا ويمكن أن يأخذ شكلا أوليغارشيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حكم الأكثرية، فيمكن أن يكون ديمقراطية معتدلة، ويمكن أن يكون ديمقراطية متطرفة.

بناء على ذلك، يصبح لدينا ثلاثة أشكال حكم منتظمة، وثلاثة أشكال حكم غير منتظمة، فإذا كانت كل أشكال الحكم منتظمة، فإن الديمقراطية هي الشكل الأخير الذي سنختار العيش فيه، أما إذا كانت كل الأشكال غير منتظمة، فإن الحياة الأفضل تكون في الديمقراطية.

القوانين/ النواميس

إن أفضل أنواع المدن جاء في كتاب القوانين، ومن هذا العنوان يمكن فهم رغبة أفلاطون في إعادة الاعتبار للقانون بعدما أبعده من محاورة الجمهورية، فلقد أدرك أن الفلاسفة ـ الملوك هم استثناء، فلا يمكن أن يتواجدوا دائما، وعليه فإن الحل الأمثل هو في دولة القانون.

تختلف هذه المدينة ـ الدولة في محاورة النواميس/ القوانين عن دولة أفلاطون السابقة في محاورة الجمهورية، هنا في النواميس تظهر الواقعية في المؤسسات السياسية والاجتماعية، فالملكية الخاصة موجودة من دون أن تتحول إلى ملكية خاصة مطلقة، وفي هذه المدينة لا وجود لمشاعية الزواج، بل للزواج الطبيعي.

على أن واقعية أفلاطون تتجلي أكثر ما تتجلي في المستوى السياسي، فبدلا من الفلاسفة ـ الملوك الذين يحكمون، يضع أفلاطون المشرع على رأس المدينة-الدولة، ويتميز المشرع بحكمته العملية التي خبرها على مدار سنين طويلة، ومن أهم هذه الميزات الاعتدال في الحياة الإنسانية.

وهذا الاعتدال يظهر أيضا في شكل الحكم، فالمدينة-الدولة تجمع بين نظامي الحكم الأرستقراطي والديمقراطي.

يقول أفلاطون في محاورة القوانين، النواميس:

لقد اخترنا نوعين من أنـواع الحكومات،
إحداهما هــي الأكثر طغيانا، والأخرى
هي الأكثر حرية، وبعـد فإننا نأخذ الآن
بعين الاعتبار أيــــا منهما هــو النوع أو
الشكـــل الصحيح، لقد أخذنا مكـــــان
الـــــوسط فـــي كلتا الحالتين، الحالة
الاستبدادية فــــي الأولى، والحـــــرة
في الأخرى، ورأينا أنهما وصلتا إلــــى
الكمال في النوع الوسط.

إنه الاعتدال السياسي الذي يجلب معه الاعتدال الأخلاقي، فلم تعد الحكمة هي التأمل الخالص كما عند الفلاسفة، بل أصبحت تعني التبصر في الأمور وإدراك الواقع الحياتي.