كتب

إسرائيل في نظر العرب قاعدة إمبريالية أنشأتها دول غربية

الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي سابقًا هجرة نوعية ومتميزة في تاريخ الهجرات اليهودية إلى فلسطين (عربي21)

الكتاب: الهجرة المعاكسة وتداعياتها على الكيان الصهيوني 
الكاتب: عبد الحليم غانم 
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب،الطبعة الأولى 2019
(272 صفحة من القطع الكبير)

إسرائل واقع استعماري. وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار على أنَّ إسرائيل هي جزء من "الظاهرة الاستعمارية "الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق. ويحار المرء في الانتقاء من بين التأكيدات العربية. فها هو عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" يحكي أفكاره كضابط في الثلاثين من العمر عند عودته من حرب فلسطين عام 1948: "لقد كان ذلك كله على توافق طبيعي مع الرؤيا التي رسمتها في ذهني التجربة. فالمشرق العربي يشكل منطقة واحدة تعمل فيها الظروف نفسها والعوامل نفسها و حتى القوى نفسها المتألبة عليها جميعا. ومن البديهي أن تكون الإمبريالية أبرز هذه القوى. ولم تكن إسرائيل ذاتها سوى نتيجة من نتائج الإمبريالية".

إسرائيل في نظر العرب قاعدة إمبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية. هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعًا في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصر غريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي ـ الأمريكي.


إن مأساة الشعب الفلسطيني كانت نتيجة لمعطيات وأهداف الاستعمار الأوروبي الذي خطط وباشر في تنفيذ خططه في الاستيلاء على المنطقة العربية، وفي إقامة دولة إسرائيل، على أرض فلسطين. ومن هنا، فإنَّ أوروبا لا تفهم قضية شعب فلسطين أكثرمن غيرها فحسب، بل لا بد وأن تستشعر بما مارسته من أعماق المأساة للشعب الفلسطيني.

 

بداية فكرة إنشاء إسرائيل

وقد بدأت فكرة الكيان الصهيوني عندما كانت الإمبرياليتان الفرنسية والبريطانية تتصارعان من أجل اقتسام تركة الرجل المريض عامة بينهما، والعالم العربي خاصة، وترعرعت مع ازدياد النفوذ الاستعماري وقوته. وأعلن قيام "دولة إسرائيل" بعد الحرب العالمية الثانية، وخروج الحلفاء منتصرين على المحور.

وجاء قيام الكيان الصهيوني عام 1948 ضمن مخطط استعماري استهدف المنطقة كلها بما فيها فلسطين. وكان الوجود الصهيوني في فلسطين جزءًا منه، إذ قام المخطط الاستعماري على تجزئة العالم العربي، وضمان تخلفه، وتنصيب فئات رجعية قيادات في كل "دولة" من دوله. وهدف الوجود الصهيوني الحفاظ على هذه الفسيفساء. وظل  الكيان الصهيوني مرتبطًا بحركة الرأسمالية العالمية عندما كان مركزها في أوروبا، وأصبح جزءًا من المخطط الامبريالي الأمريكي حين انتقل مركز هذه الرأسمالية العالمية إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.

ففي أيلول (سبتمبر) ـ تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، بدأت الجمعية العمومية دراسة التقرير المقدم بشأن المسألة الفلسطينية، وقد أكدت هذه الدراسة من جديد الفرق المبدئي بين مواقف الدول الإمبريالية الأوروبية والاتحاد السوفييتي. فتحت ستار الحل "المتفق عليه" (أي الحصول على موافقة العرب واليهود) راحت بريطانيا تحاول بشتى الوسائل التخلص من قرارات هيئة الأمم المتحدة. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد أيدت من جانبها "مشروع الأكثرية" للجنة الفلسطينية، ولكنها استمرت تحاول الوصول إلى أية أسس "قانونية" بغية تنفيذ أطماعها الإمبريالية في فلسطين في المرحلة الانتقالية، وهذا ما تجلى ـ جزئيًا ـ في الاقتراحات الأمريكية حول تأسيس قوات بوليسية في فلسطين عن طريق "التطوع".

وفي 29 تشرين ثاني (نوفمبر) 1947، وانطلاقا من المبادئ الأساسية في النظام الداخلي، قررت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بنسبة ثلثي أعضائها إلغاء الانتداب على فلسطين، وتقسيمها إلى دولتين منفصلتين: عربية ويهودية، مع الإبقاء على الوحدة الاقتصادية فيما بينهما. وقد صوتت إلى جانب المشروع 33 دولة، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وعارضته 13 دولة، وامتنعت 10 دول عن التصويت بما في ذلك بريطانيا. وقد جاء في القرار: "يلغى مفعول الانتداب على فلسطين في أقرب وقت ممكن، ولكن ليس بعد 1 آب (أغسطس) 1948. وسحب الجيوش الإنكليزية ليس بعد 1 آب (أغسطس) 1948".

إن استجابة القوى الأوروبية لحركة المطالبة بفلسطين من قبل بعض الشخصيات الأوروبية، في نهاية القرن التاسع عشر، تحت يافطة الحركة الصهيونية، ثم قيام دولة "إسرائيل" في عام 1948، تؤكد لنا عدم أمانة الغرب للقيم والمفاهيم التي حملتها في سيرورتها التاريخية الثورة الديمقراطية البرجوازية الأوروبية من الليبرالية والعلمانية والديمقراطية.

يلقي الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي: "الهجرة المعاكسة وتداعياتها على الكيان الصهيوني"، لمؤلفه الباحث عبد الحميد غانم، والصادر حديثا عن الهيئة العامة السورية للكتاب (وزارة الثقافة) 2019، والمتكون من مقدمة، وثلاثة فصول كبيرة، يلقي الضوء على الظروف الدولية والإقليمية والعوامل التي أسهمت في قيام الكيان الصهيوني، وتكثيف الهجرة اليهودية الوافدة، وتوضيح الإشكاليات المرتبطة بموضوع الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومدى تأثيرها في موضوع الهجرة المعاكسة، كما يسعى إلى توضيح الأسباب التي ساعدت على تزايد الهجرة المعاكسة، وتحديد ماهية السياسات الصهيونية المتبعة للحدّ من الهجرة المعاكسة.
  
بريطانيا وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة

أدت سياسة بريطانيا الاستعمارية دورًا كبيرًا في قيام الكيان الصهيوني من خلال تحويل اللحظة التاريخية التي منح فيها وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفورالحركة الصهيونية وعده في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، إلى واقع ملموس على أرض الواقع وتنشيط الهجرة اليهودية واستمرار توافد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، مما ساعد على زيادة متواترة للمستوطنين اليهود في فلسطين المحتلة.

فقد فتحت بريطانيا الباب على مصراعيه لصراع لا ينتهي، سرعان ما عصف بالبلاد وأهلها. ولم يكن بالإمكان تحقيق المشروع الصهيوني إلا من خلال خلق دولة يهودية خالصة في فلسطين، كملاذ آمن لليهود من الاضطهاد. وكمهد لقومية يهودية جديد، وكان لابد لمثل تلك الدولة أن تكون يهودية حصرًا، لا في تركيبها الاجتماعي السياسي وحسب، بل في تركيبها العرقي كذلك. 

 

دأت الحركة الصهيونية عملاً واسعاً لتغيير المعالم الديمغرافية في فلسطين، بزيادة عدد المستوطنين اليهود في فلسطين، تكون كافية لتبرير فكرة الوطن القومي نظريًا، وتشكل عاملاً في تجسيد الفكرة عمليًا


وقد سمحت سلطات الانتداب البريطاني للحركة الصهيونية منذ البداية، أن تقيم لنفسها كيانًا مستقلاً داخل فلسطين، ليكون بمنزلة البنية التحتية لدولة تقوم في المستقبل. وقد تضمنت الاستعدادات الصهيونية للاستيلاء على الأرض بالقوة، فيما لو فشل تسليمها لهم من خلال الدبلوماسية، إنشاء منظمة عسكرية فعالة، بمساعدة الضباط البريطانيين المتعاطفين، والبحث عن موارد مالية سخية، يمكن بوساطتها تهجير اليهود إلى فلسطين. وانطلقت السياسة البريطانية من أنَّ لدى اليهود المال والرجال لاستعمار فلسطين وحماية المصالح البريطانية في المنطقة، لذلك قررت السلطات البريطانية دعم هجرة اليهود إلى فلسطين لإقامة الكيان الصهيوني فيها.

يقول الباحث عبد الحميد غانم: "وقد بدأت الحركة الصهيونية عملاً واسعاً لتغيير المعالم الديمغرافية في فلسطين، بزيادة عدد المستوطنين اليهود في فلسطين، تكون كافية لتبرير فكرة الوطن القومي نظريًا، وتشكل عاملاً في تجسيد الفكرة عمليًا، فقامت المنظمات الصهيونية بالتنسيق مع الاحتلال البريطاني بتوسيع دائرة الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وتأمين المتطلبات المادية اللازمة لاستيطان المهاجرين وتأمين فرص عمل لهم، ومواجهة المحاولات العربية والفلسطينية الرافضة والمقاومة لهذه الهجرة.

وأصدرت بريطانيا وعد (بلفور) في تشرين الثاني 1917م، ثم ضمنته في ظل احتلال فلسطين تحت مسمى "الانتداب" البريطاني، الذي مكن الحركة الصهيونية من السيطرة على فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني، وعينت اليهودي (هربرت صموئيل) مندوبًا ساميًا على فلسطين لفتح أبوابها أمام الهجرة اليهودية (ص 14 من الكتاب). 

وبعد أن أصدرت السلطات البريطانية "قانون المهاجرة" في 26 آب (أغسطس) 1920، الذي يخوّل لها إدخال من تشاء، جرى استخدامه لمصلحة زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتهجير أهلها. وتكشف الإحصاءات الصهيونية، ارتفاع عدد اليهود في فلسطين من عام 1918، حتى انتهاء الاحتلال البريطاني والإعلان عن قيام الكيان الصهيوني عام 1948م .

وهكذا، فإنَّ أكثر من (72%) من الزيادة التي طرأت على عدد المستوطنين اليهود في فلسطين خلال فترة الاحتلال كانت بفعل موجات الهجرة، حيث قدّم الاحتلال البريطاني تسهيلات من أجل إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، تحقيقًا لمصالحه في المنطقة، وإبقائها مفككة.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، استغلت الحركة الصهيونية حكاية "الهولوكوست"، وعلاقاتها مع بريطانيا ثم مع أمريكا لاحقاً لتسريع عملية الهجرة إلى فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني، إذ هاجر قسم كبير من يهود أوروبا بعد أن أصبحوا لاجئين، ولم تتوفر لهم أية خيارات أخرى بعد إغلاق باب الهجرة الأمريكية، وهذا ينطبق على أكبر موجتي هجرة سبقتا عام 1948، وقد فضل معظم الناجين من "الهولوكوست" الهجرة إلى الولايات المتحدة، ما دفع بن غوريون إلى نقل كل الجاليات اليهودية من الدول العربية إلى إسرائيل ليس بدافع حرصه على مصلحة هذه الجاليات، وإنما بهدف تحقيق أغلبية يهودية بعد أن رأى أن اليهود لا يهاجرون بمحض إرادتهم. وقد أخفقت الحركة الصهيونية العالمية في تأمين أغلبية يهودية في فلسطين، لكن قرار التقسيم وحرب 1948 قادا إلى خلق ظروف أكثر ملاءمة لدولة إسرائيل، التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على مناطق خارج خطة التقسيم.
 
ويبين الباحث عبد الحميد غانم من خلال الجدول أدناه تطور تعداد المستوطنين اليهود في فلسطين، إذ ازدادت نسبتهم من أقل من واحد بالمائة سنة 1882م، إلى 43% من العدد الكلي الموجودين على أرض فلسطين المحتلة سنة 2013م، كما يبين أن عدد اليهود في العالم وفق التقديرات الصهيونية شهد في القرن التاسع عشر ارتفاعاً ملحوظاً، فتزايد عددهم خمسة أضعاف في ذلك القرن، بنسبة فاقت تلك التي كانت سائدة بين الشعوب الأخرى التي كان اليهود يعيشون بينها. فقد ارتفع عدد اليهود إلى 3.3 مليون سنة 1825م، ثم إلى 4.7 مليون سنة 1850م، في حين أصبح وفق 7.5 مليون سنة 1880م. وقدر عدد اليهود في العالم في بداية القرن العشرين بحوالي 10.6 مليون نسمة عام 1900م، وارتفع هذا العدد إلى حوالي 13.2 مليون نسمة سنة 2000م، وأصبح في سنة 2013م، حوالي 14.2 مليون نسمة.

 

حدث تغيير كبير في التوزيع الجغرافي ليهود العالم، نتيجة موجات الهجرة اليهودية إلى الدول الغربية وفلسطين، مما أدى إلى تغير في مراكز الثقل الديمغرافي ليهود العالم،


في قراءة علمية تتعلق بهجرة المستوطنين اليهود إلى فلسطين، نلمس بوضوح أنّ أغلب المهاجرين اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين، جاؤوا من دول الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية، إذ يتبين أن أغلب اليهود كانوا يقيمون في هذه الدول عند انطلاق موجات الهجرة الأوروبية.

فقد حدث تغيير كبير في التوزيع الجغرافي ليهود العالم، نتيجة موجات الهجرة اليهودية إلى الدول الغربية وفلسطين، مما أدى إلى تغير في مراكز الثقل الديمغرافي ليهود العالم، فقبل الحرب العالمية الثانية كان التجمع الرئيس ليهود العالم يتركز في بولندا وروسيا والمجر [وتدعى أيضاً هنغاريا] ورومانيا، كما يؤكد الباحث الفلسطيني مصطفى عبد العزيز، إلا أنه أصبح الآن ـ يعيش أكثرية يهود العالم في الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية، أي أن الثقل الديمغرافي ليهود العالم صار في العالم الغربي، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية (حوالي 6.6 مليون يهودي). ويوجد في الكيان الصهيوني حوالي أكثر من ستة ملايين يهودي يشكلون (75%) من عدد الذين يعيشون داخل الكيان، علماً بأنهم كانوا يشكلون (82%) مع قيام الكيان.

يقول الباحث عبد الحميد غانم: "لقد سجل تقرير دائرة الإحصاء المركزية الصهيونية لعام 2013، أنّ أكبر موجات الهجرة اليهودية كانت بين عامي (1948- 1951)، إذ سجلت وصول حوالي 677 ألف نسمة، وكذلك خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين ، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سابقًا (حيث كان عدد اليهود يصل إلى 1.8 مليون، بعد أن كان 2.2 مليون في سنة 1959)،إذ وصل حوالي مليون مهاجرمن اليهود السوفيات"(ص38 من الكتاب).

وتُعَدُّ الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي سابقًا هجرة نوعية ومتميزة في تاريخ الهجرات اليهودية إلى فلسطين، سواء من حيث الكم، الحجم الضخم لعدد المهاجرين، أم من ناحية النوع، نوعية المهاجرين وما يمتلكونه من مال أوخبرات علمية وعملية، يستفيد منها الكيان الصهيوني في مجالات الحياة كافة. ومن الجدير بالذكر، أنَّه منذ قيام الكيان الصهيوني سنة 1948، ولغاية 2013، وصل أكثر من ثلاثة ملايين يهودي مهاجر إلى فلسطين المحتلة.