قضايا وآراء

الإسلام والرجم (9): موقف المحدثين والفقهاء من حديث خذوا عني

1300x600

والحديث الثالث من الأحاديث القولية التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في (الرجم)، هو: قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".(1)
 
وقد ورد بعدة روايات معظمها عن عبادة بن الصامت، ورواية أخرى عن سلمة بن المحبق، رضي الله عنهما، تختلف في بعض العبارات قليلا، أو تقدم وتؤخر في بعضها، فتأتي بالبكر أولا، أو بالثيب أولا، ومنها رواية لا تبين مدة النفي، فتنص على عقوبة النفي دون تقديرها، وهي: "جلد مائة ونفي".(2)
  
وأما الرواية الثانية عن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم".(3)
 
سند الحديث:

أما عن سند حديث عبادة بن الصامت: فقد صححه معظم المحققين والمخرجين، ولكن هناك كلام في سند الحديث، أنه حديث معلول سندًا؛ فكل رواياته من رواية الحسن البصري معنعنة، أي بصيغة: عن، والحسن البصري موصوف بالتدليس؛ ما يعني أنه منقطع حكما، إلا رواية ابن ماجه (4)، لكن تفرد بها بكر بن خلف فرواها عن يونس بن جبير، عن حطان عن عبادة، وبكر صدوق يخطئ، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: بكر بن خلف وهم في قوله: (عن يونس بن جبير) وفي رواية ابن ماجه هذه، والصواب: (عن الحسن البصري)، نبه عليه المزي في (تحفة الأشراف) (5083)، وقد جاء على الصواب عند أبي داود (4415) عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان، به. (5)  

وأما حديث سلمة بن المحبق، فقد ضعفه محققو مسند أحمد وغيرهم.

نقد متن الحديث:

هذا عن النقد الذي وجه لسند الحديث برواياته المختلفة، أما عن النقد الذي وجه للمتن، فقد انتقده الأحناف، وردوه، من جهة المتن، وسوف يأتي رأي الأحناف بالتفصيل في ذلك، وقولهم فيه بالنسخ، لمخالفته ما فعله صلى الله عليه وسلم فيما بعد. وممن انتقد الحديث عن طريق متنه، العلامة الطاهر ابن عاشور، فقال: (ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد، ولا أحسبه إلا توهما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه، وأحسب أنه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم). (6)
  
زمن الحديث:

هناك اختلاف بين الفقهاء والمحدثين على زمن الحديث، هل هو قبل آية النور أم بعده؟ وهل هو بعد آية النساء مباشرة، أم لا؟ لأن تحديد زمن الأحاديث التي تكلمت عن الرجم مهم جدا.

فمنهم من لم يستطع تحديد تاريخه: (قوله: (جلد مائة). يحتمل أن يكونَ قاله ثم نزلت الآية بَعده في الجلدِ، ويحتمل أن يكون قاله بعد نزولِ الآية تأكيدًا وبياناً للحكمِ). (7) وقال القاضي عياض: (معنى قوله: "قد جعل الله لهن سبيلاً": إشارة إلى قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ) إلى قوله تعالى: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا)، فأعلم النبي عليه السلام أن الله قد أوحى إليه، فجعل السبيل لهن بما ذكره في الحديث.

 

المتأمل لدفاع الأحناف عن رأيهم في أن التغريب تعزير وسياسة لا حد، يتبين له بجلاء: أنها أدلة تصلح أكثر لنفي الحد عن الرجم، وأنه سياسة هو أيضا وتعزير.


واختلفوا في الآية، هل هي محكمة وما جاء مفسر لها، أو منسوخة بآية النور وبهذا الحديث وبآية الرجم المنسوخ لفظها؟).(8)
  
وقال ابن عبد البر: (فكان هذا في أول الأمر ثم رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة ولم يجلدهم فعلمنا أن هذا حكم أحدثه الله نسخ به ما قبله).(9) وقد سبق تناولنا لآيتي سورة النساء، وما قيل عن نسخ الحديث لهما، ومدى صحة ذلك.

فمن الواضح أن معظم الشراح، والفقهاء، سواء من يأخذ بالحديث سندا ومتنا، ويقول بالعقوبتين اللتين وردتا في الحديث للبكر والثيب، يتفقون جميعا على أن الحديث ورد بعد آية النساء، وأنه قبل حادثة رجم ماعز والغامدية واليهوديين. وأما الحديث عن زمن آية سورة النور، فهو موضع خلاف، وسوف نناقشه في موضعه إن شاء الله بالتفصيل، من حيث زمن نزولها، وهل قبل أو بعد حوادث الرجم، وهل معناها محكم أم لا؟

إشكالات في الحديث:

وهذا الحديث موضع جدل ونقاش كبير بين الفقهاء، بل هو موضع حيرة أيضا لديهم؛ في القديم والحديث، وهذا الإمام الصنعاني يبدي حيرته فيه، بعد شرح للحديث، ومحاولة للترجيح بين الأدلة فيه فيقول: (ولا يخفى قوة دلالة حديث عبادة على إثبات جلد الثيب ثم رجمه، ولا يخفى ظهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد من رجمه، فأنا أتوقف في الحكم حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، وكنت قد جزمت في منحة الغفار بقوة القول بالجمع بين الجلد والرجم، ثم حصل لي التوقف هنا). (10) 
 
بل إن الأحناف ردوا الحديث، ولم يعملوا به، واختلف حوله فقهاء آخرون، لأن الحديث جمع بين عقوبتين في كل حالة، فعلى البكر: جلد مائة ونفي سنة، أو نفي بدون تحديد للمدة كما ذكرت بعض الروايات، وفي عقوبة المحصن: الجلد والرجم.
 
ورفض الأحناف هذه الزيادة في الحد، فقرروا للبكر الجلد فقط، ورفضوا التغريب، وفي المحصن الرجم دون الجلد، مما جعلهم يحكمون بنسخ الحديث وكذلك قال غيرهم بنسخه. (11)
  
ومن الفقهاء من أخذ بنسخ الجلد مع الرجم فقط للمحصن، وبقاء التغريب مع الجلد لغير المحصن، وهنا يكون قد أخذ بنصف الحديث، وترك نصفه، وهو أمر مستغرب.
 
وأكثر من ناقش هذا الحديث، في تفاصيله، ورده، والحكم بنسخه هم الأحناف ولذا ننصح بالعودة لكلامهم في الحديث، ورده، وتأويله، وذلك لأن النفي مع الجلد لغير المحصن، والجلد مع الرجم للمحصن، يرونه زيادة في الحد، وأنه من باب التعزير والسياسة وليس الحد، وقد دللوا على ذلك بكلام مهم كان الأليق به أن يستشهد في نفي الرجم أكثر منه في نفي التغريب والجلد. (12)   

وقفات مهمة مع الحديث:

إذ كيف يقول الفقهاء الذين قالوا: بالتغريب مع الجلد لغير المحصن، والجلد مع الرجم للمحصن، بعقوبة، لم يطبقها النبي صلى الله عليه وسلم، فأحداث الرجم التي سنناقشها ونذكرها فيما بعد: مثل رجم اليهوديين، وماعز والغامدية، وامرأة العسيف، لم يطبق في كل هذه الحالات ولا في حالات الجلد هذه العقوبة المذكورة في الحديث، ثم لم يطبقها أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، رضي الله عنهم جميعا، وإن ورد عن عمر تطبيقا لعقوبة النفي، ثم تراجعه عنها، في قضايا أخرى غير الزنا.

ثم يأتي بعد ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيطبق العقوبة بما ورد في حديث عبادة بن الصامت، فكيف تؤجل عقوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عهد علي، ولا تطبق إلا في عهده؟!!

 

من الفقهاء من أخذ بنسخ الجلد مع الرجم فقط للمحصن، وبقاء التغريب مع الجلد لغير المحصن، وهنا يكون قد أخذ بنصف الحديث، وترك نصفه، وهو أمر مستغرب.


في الحقيقة إن المتأمل لدفاع الأحناف عن رأيهم في أن التغريب تعزير وسياسة لا حد، يتبين له بجلاء: أنها أدلة تصلح أكثر لنفي الحد عن الرجم، وأنه سياسة هو أيضا وتعزير. فهم اعتمدوا في أدلتهم ونقاشهم على رفض التغريب مع الجلد لغير المحصن، والجلد مع الرجم للمحصن، أنه زيادة عن نص القرآن الكريم، وأن الزيادة تعتبر نسخا، والسنة هنا آحاد، ولا يمكن لسنة الآحاد أن تنسخ المتواتر وهو القرآن الكريم، فهو كلام أليق أن يطبق على الرجم، الذي لم ترد فيه آية واحدة، تصريحا ولا تلميحا، بل ورد في السنة فقط، فهو يعتبر زائدا عن الحد، بحكم وروده في السنة منفردا، فلو طبقنا منهج الأحناف هنا يؤدي بنا إلى هذا الطريق، وهو نفي الرجم حدًا، لزيادته على حد القرآن الكريم الوارد في سورة النور، وهو الجلد. وفي الحديث وقفات أخرى، ستأتي في ثنايا نقاش أحاديث أخرى في الموضوع إن شاء الله.

الهوامش:
 
1 ـ رواه مسلم (1690) والنسائي في الكبرى (16991) وأبو عوانه (6686) وأحمد (22666) والدارمي (2328) وأبو داود (4415) والترمذي (1434) والطحاوي في شرح الآثار (3/138) وابن ماجه (2550) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2 ـ رواه الطبراني في الأوسط (2002).
3 ـ رواه أحمد (15910) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/134) وضعف إسناده محققو المسند (25/251).
4 ـ رواه ابن ماجه (2550). وينظر في وصف الحسن البصري بالتدليس: طبقات المدلسين، لابن حجر ص: 29. والتقريب رقم: (1227).
5 ـ انظر: سنن ابن ماجه، بتحقيق شعيب الأرناؤوط رقم: (2550) نقلا عن: منهجية التعامل مع السنة النبوية للدكتور محمد سعيد حوى الحلقة (34).
6 ـ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (4/274).
7 ـ انظر: القبس في شرح موطأ مالك لابن العربي (1/1009).
8 ـ انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (5/504).
9 ـ انظر: التمهيد (9/82).
10 ـ انظر: سبل السلام للصنعاني (4/6).
11 ـ انظر: القبس في شرح الموطأ لابن العربي (1/1011،1010) وشرح البخاري لابن بطال (8/440).
12 ـ انظر: المبسوط للسرخسي (9/36) وأحكام القرآن للجصاص (3/316،315) وإعلاء السنن للتهانوي (11/605،604).