كتاب عربي 21

اغتيال مرسي واغتيال الديمقراطية

1300x600

ليست حادثة وفاة الرئيس الشرعي المنتخب في مصر من قبل نظام الانقلاب العسكري حدثا فرديا يستهدف شخصية سياسية رفيعة فحسب، بل هو أعمق من ذلك دلالة وأبعادا. الحدث ليس وفاة طبيعية بل هو أقرب إلى الاغتيال المدبر بعد أن حرم السجين من الرعاية الطبية اللازمة ومن العناية التي تمنع تدهور حالته الصحية بسبب الأوضاع الكارثية في سجون الانقلاب. الحادث الأليم الذي هزّ أركان الرأي العام العربي من المحيط إلى الخليج يشكل أيضا حدثا رمزيا يؤكد الطابع الإجرامي للنظام الانقلابي الذي يضيف إلى سجلاته الدامية جريمة جديدة في حق مصر والأمة .

اغتيال الديمقراطية 

لم تنطلق ثورات الربيع العربي التي لا تزال تتفاعل اليوم على الساحة في موجتها الثانية إلا طلبا للحرية والتحرر ومطالبة بدولة مدنية تضمن الحقوق والحريات وتحارب الفساد والظلم. إنها شكل من أشكال المطالبة بالديمقراطية التي تتأسس على الاختيار الحر الذي تعبر عنه الانتخابات والاحتكام للصندوق كما هو الحال في كل الدول المتقدمة.
 
كانت الثورات إذن فرصة نادرة لتحقيق هذا المطلب العزيز وقد كان قادرا على تحقيق نقلة نوعية في واقع الأمة من واقع استبداد الفرد الواحد والحزب الواحد والفكرة الواحدة إلى رحابة الاختلاف والتنوع وقبول الآخر. لكن الأنظمة العربية وجيوشها المدججة بالسلاح كان لها رأي آخر إذ سرعان ما تحركت آلة الموت لتذبح أحلام الشعوب وتحول ربيع الثورات إلى حمام من الدماء وساحات من الجثث والأشلاء.

 

ليس اغتيال محمد مرسي برمزيته كأول رئيس مصري منتخب بطريقة ديمقراطية إلا اغتيالا لصفحة مفصلية من تاريخ الأمة


لم يكن ذلك ممكنا بطبيعة الحال دون مباركة دولية وضوء أخضر أمريكي بشكل خاص ليدعم سرا وعلنا الانقلاب على الشرعية والقضاء على أول تجربة ديمقراطية في مصر. ليست الديمقراطية التي يعيب الغرب غيابها في بلادنا إلا كابوسا يؤرقه ويؤرق مصالحه في بلاد عمل طويلا على تكبيلها بالطغاة والمستبدين حتى يضمن وضع يده على ثرواتها الضخمة. 

ليس اغتيال محمد مرسي برمزيته كأول رئيس مصري منتخب بطريقة ديمقراطية إلا اغتيالا لصفحة مفصلية من تاريخ الأمة قبل تاريخ مصر. وليس الاغتيال إلا دليلا على رسوخ الطابع الإجرامي في الفعل الاستبدادي والانقلابي مصريا كان أو غيره. 

الاغتيالات وتوحش الاستبداد

لم يظهر الاستبداد العربي سلوكا وممارسة من قبل بالشكل الذي هو عليه اليوم من تفعيل لآلة القتل الممنهج وتكريس لمفهوم الموت على الهوية والانتماء والوعي والفكرة. الموت والقتل لم يقتصر على المدنيين العزل بل طال كل رموز الثورة وأيقونات الربيع العربي سواء في سوريا أو مصر أو ليبيا خاصة. هذا السلوك المدروس بعناية يهدف إلى إطفاء الشموع القادرة على إنارة الطريق أمام الجماهير بما في ذلك كل الرموز المدنية التي لم تحمل السلاح بل طالبت بحق الانسان في الحرية وفي الدولة المدنية.

إن اغتيال الكاتب الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بتركيا ليس إلا وجها آخر من وجوه اغتيال الرموز المدنية في سياق ثورات الربيع. فلم تكن آلة الاستبداد العربي لتسمح بوجود هذا الصوت المعتدل الداعي إلى مراجعة المرحلة السابقة من تاريخ السلطة السياسية والمنادي بضرورة التكيف مع الواقع الجديد الذي فرضته ثورات الشعوب بقوة الجماهير الهادرة في الميادين والساحات. 

 

بلغ النظام الرسمي العربي اليوم أقصى مراحل التوحش في تعامله مع مطالب الشعوب بالحرية والعدالة


من العسير جدا أن نحصي في هذا المقام أسماء الضحايا الذين حصدهم آلة الاستبداد العربي التي تؤكد أن الاغتيالات والقتل والتعذيب والتهجير القسري هي مبادئ أساسية يقوم عليها جوهر النظام القمعي العربي منذ نشأته. وهي نفس المبادئ التي تنسف كل المساحيق التي يعمل هذا النظام على استعمالها من أجل إيهام العالم بأنه يحارب الارهاب والتطرف. بل إن التطرف والإرهاب ليسا في الحقيقة إلا صنيعة من صنائع السلطة السياسية العربية في مواجهة معارضيها. 

لقد بلغ النظام الرسمي العربي اليوم أقصى مراحل التوحش في تعامله مع مطالب الشعوب بالحرية والعدالة ولم يتوان عن ارتكاب أبشع الجرائم والمجازر من أجل التمسك بالسلطة والثروة. وهو سلوك يكشف من جهة أخرى أنه نظام استوفي كل شروط وجوده الممكنة. فليست حالة الحرب المفتوحة التي تقودها أجهزة الدولة الاستبدادية العربية ضد شعوبها إلا عنوان المرحلة الأخيرة من عمر هذه الدولة نفسها. فسياسة الأرض المحروقة المتبعة اليوم في سوريا وليبيا ومصر وغيرها من الأقطار العربية هي دليل قاطع على استنفاذ النظام كل الوسائل السياسية والسلمية الممكنة لمنع السقوط الحتمي.

المرحلة الجديدة 

لم يبق لدى الجماهير العربية ذرة شك اليوم في طبيعة النظام الحاكم الذي بدد الثروات ومنع النهضة وحكم على الأمة بالهزيمة والتخلف والفقر. هذا الوعي الجديد بأن النظام السياسي غير قابل للإصلاح هو الذي يفسر في جزء كبير منه انطلاق الموجة الثورية الثانية في السودان والجزائر بنفس المطالب والشعارات والسلمية التي عرفتها الموجة الثورية الأولى. 

من جهة مقابلة يجتهد الاستبداد العربي في تقديم التنازلات الواحدة تلو الأخرى للقوى الاستعمارية الخارجية سواء عبر التسريع بصفقة القرن وبيع القدس أو عبر صفقات التسليح الضخمة التي يبرمها مع الشركات الدولية ومقايضتها بالصمت عن جرائمه في حق شعبه. 

 

يجتهد الاستبداد العربي في تقديم التنازلات الواحدة تلو الأخرى للقوى الاستعمارية الخارجية


لكن يبدو من العسير على القوى الدولية اليوم أن تضمن بقاء الأنظمة العربية بالشكل الذي هي عليه وليست المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في مصر مثلا إلا دليلا قاطعا على أن البلد مقبل على انفجار محتوم. وهو ما يجعل من المرحلة القادمة مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة ستعمل عبرها القوى العربية الحية على تدارك الخطاء الكارثية التي وقعت فيها سابقا وتؤسس لمرحلة جديدة تختلف كليا عن سابقتها وإن طال بها التأسيس.