كتاب عربي 21

عبد الفتاح على خطى عبد الفتاح

1300x600

في 11 من نيسان (أبريل) الماضي، أعلن قادة عسكريون الإطاحة بحكم عمر البشير، وشكلوا مجلسا قالوا إنه سيتولى إدارة البلاد، بالتوافق مع التنظيم الذي قاد ثورة شعبية دامت أربعة أشهر، ولأن عساكر جميع بلدان العالم الثالث قبيلة واحدة، فقد بدأ عسكر السودان في التنصل من ذلك التعهد، والسير على نفس طريق عسكر مصر الذين ركبوا موجة الثورة الشعبية التي أطاحت بحسني مبارك، ثم انقلبوا على الثورة والثوار.

 

بين السيسي والبرهان

كان المشير بأمرِهِ عبد الفتاح السيسي قد أعلن فور  بلوغه أعلى مراقي السلطة في مصر، زهده في الحكم، وبذل الكثير من حلو الكلام عن تعزيز الممارسة الديمقراطية ودرء الفتن ومهددات السلم الأهلي، وشيئا فشيئا تحول حكمه إلى دكتاتورية عضوض.

وكان من عجيب المصادفات أن رأس المجلس العسكري في السودان أيضا يحمل اسم عبد الفتاح (البرهان)، ثم اتضح أنه يتخذ من عبد الفتاح (السيسي) المصري معلِّما وشيخا، فكان ما كان من أمر مذبحة 29 رمضان التي بلغ عدد ضحاياها 118 حتى فجر الخميس 6 حزيران/ يونيو الجاري.

 

لا أحد في السودان يشك في أن العصيان المدني سيؤدي إلى سقوط حكم العسكر،


كانت نقطة التحول في مسار الثورة الشعبية في السودان، اعتصام مئات الآلاف من الثوار أمام مقر قيادة الجيش السوداني، وظل الاعتصام قائما منذ يومها حتى الثالث من حزيران (يونيو) الموافق 29 رمضان، وكان الثوار عازمين على عدم فض الاعتصام ما لم يتم نقل السلطة من العسكر إلى المدنيين، ومن جانبهم تعهد العسكر بعدم فض الاعتصام لأنه التزم بالسلمية.

 

ساحة للقتال غير المتكافئ


في فجر 29 من رمضان فوجئ المعتصمون النيام بمئات الجنود يطلقون عليهم النيران بكثافة قتالية، ويشعلون النيران في الخيام التي كانوا قد نصبوها لتقيهم حر الشمس وهم صيام، وخلال سويعات كان المكان قد غص بالجثث والحرائق، واختلط حابل المعتصمين بنابل الجنود، ثم تحولت عاصمة السودان المثلثة (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان) إلى ساحة قتال غير متكافئ بين عسكر مسلحين بمختلف وسائل القتل، ومدنيين لم يكن أمامهم من سلاح سوى الأقدام هربا من موت زؤام.

كان قوام القوة التي اكتسحت مقر الاعتصام ما يعرف بقوات الدعم السريع، وهي مليشيا شكلها نظام عمر البشير لإخماد التمرد في إقليم دارفور الملتهب، وكانت أصلا عصابات تحمل اسم الجنجويد، وأبلت في تلك المهمة بلاء غاية في السوء، ومارست أبشع أنواع الإبادة والتنكيل بأهل دارفور، وأحرقت قرى وبلدات كاملة مما اضطر ملايين الدارفوريين إلى النزوح إلى مخيمات ترعاها الأمم المتحدة أو إلى تشاد المجاورة.

 

الجنجويد تحتل الخرطوم

حتى يوم الناس هذا فإن الخرطوم محتلة ومستباحة من قبل الجنجويد، الذين يمارسون وحشية مفرطة في التعامل مع عابري الطريق، ويطلقون النيران على الناس متى وكيفما أرادوا، وما من جهة تردعهم، لأنهم مسنودون بقائدهم محمد حمدان حميدتي، الذي صار نائب رئيس المجلس العسكري، الذي انقلب على الثوار سعيا للانفراد بالسلطة.

واعتماد المجلس العسكري على مليشيا لا تلتزم بأي ضوابط مهنية أو أخلاقية لترويع الناس، مؤشر إلى أن جنرالات المجلس لا يثقون بجنود وصف ضباط وصغار ضباط القوات المسلحة كسند لهم ولمسعاهم للانفراد بحكم البلاد، ولعلهم اليوم يعيشون في خوف من تلك المليشيا التي صارت ترابط في جميع أحياء العاصمة السودانية، وتبدي عداء فاضحا لجماهير المدن عامة وهو أمر يتجلى في العنف اللفظي تجاه كل من يمر بهم.
 
حتى يوم الأربعاء الخامس من حزيران (يونيو) الجاري تم انتشال 40 جثة من نهر النيل، جميعهم من الشبان الذين كانوا في موقع الاعتصام لحظة اجتياحه، وكان شهود عيان في موقع الحدث قد شاهدوا شاحنات وسيارات إسعاف تحمل جثثا وتغادر مكان الاعتصام إلى جهات غير معلومة، مما يرجح الروايات بأن عدد ضحايا مذبحة رابعة السودانية يفوق المائتين.

 

الخرطوم محتلة ومستباحة من قبل الجنجويد، الذين يمارسون وحشية مفرطة في التعامل مع عابري الطريق


وأخذت العزة بالإثم عبد الفتاح البرهان فتلا بيانا عبر وسائل الإعلام ليس ليتأسف ويعتذر لحدوث المجزرة ولكن ليعلن وقف التفاوض مع قوى الثورة، وتنصل المجلس العسكري من أي اتفاق معها، والبقاء في سدة الحكم لتسعة أشهر أخرى يتم بعدها طبخ انتخابات بطريقة شيخه عبد الفتاح المصري ليتسنى له الزعم بأن البلاد تشهد تحولا نحو الديمقراطية.

وكان رد الفعل الشعبي الغاضب صدمة للبرهان والقائد المليشياوي حميدتي فقد التزمت الجماهير بدعوة العصيان المدني الذي نادت له قيادة الثورة وانتصبت آلاف المتاريس في شوارع جميع المدن السودانية، وتحولت البلاد بأكملها إلى ساحة اعتصام.

لم يتوقع أحد في السودان أن يتعرض مسلمون صائمون للإبادة وهم نيام قبل 24 ساعة من عيد الفطر، فكان أن انتشر وسم "عيد شهيد#" في جميع منابر ومنصات التواصل الاجتماعي في السودان وخارجه، بل وردد الآلاف بيت الشعر الذي لا يخلو منه مقال في العالم العربي قرين أي عيد، بعد تحويره بحيث صار: 

عيد بأية حال عدت يا عيد/ بما مضى أمر لأمر فيك جنجويد.

ويفترض أن يعود الناس في السودان الى مواقع أعمالهم يوم الأحد 9 حزيران (يونيو) الجاري، وعندها سيكتشف عسكر السودان كيف أن سلاح العصيان المدني شديد المضاء، وقد لحس البرهان يوم الأربعاء الماضي ما قاله عن إغلاق ملف التفاوض، على أمل فض تراجع الجماهير عن العصيان،  ولكن ما عاد أحد يصدق وعوده فقد درج خلال الأسابيع القليلة الماضية على إعلان الشيء اليوم، ثم إعلان نقيضه غدا.

لا أحد في السودان يشك في أن العصيان المدني سيؤدي إلى سقوط حكم العسكر، ولكن لا أحد أيضا يشك في أنه طالما أن مليشيا الجنجويد موجودة في كل الساحات، ومسلحة حتى الأسنان، فإن مآلات الأمور قد تكون مرعبة ومدمرة، لأن تلك المليشيا ستفقد حظوتها في ظل أي حكم غير عسكري، وقد تمارس الانفلات الأهوج، طالما أن أفرادها الموجودين في كل ركن من العاصمة المثلثة يتباهون علنا أمام الجماهير بقولهم: هتفتم "يا عنصري ومغرور/ كل البلد دارفور" وها نحن ننقل دارفور إلى الخرطوم.

أقول قولي هذا يوم الخميس السادس من حزيران (يونيو)، وأنا مدرك أن السودان قد يشهد تحولات وتقلبات كثيرة قبل أن يجد هذا المقال طريقه إلى النشر بعد يومين.