قضايا وآراء

ليبيا في رهان محور الاستبداد

1300x600
قصدت من "محور الاستبداد" ما سُمّي سابقا بمحور الاعتدال العربي، والذي كان يتمثل في دول السعودية والإمارات ومصر، قبل الربيع العربي، وكانت توجهاته تصبّ في ضرورة حل القضية الفلسطينية دون دعم المقاومة، وهو قريب جدا من توجهات اللوبي الصهيوني الأمريكي الداعمة للاحتلال الإسرائيلي. أحد الكتاب العرب سمّاه "محور الاعتلال العربي"، وهي تسمية موضوعية إلى حدٍّ كبير، بالنظر إلى المواقف ما قبل وبعد الربيع العربي التي فرغت القضايا العربية من محتواها، وتمرغت في وحل التبعيّة المذِلة للوبي الصهيوني، وأضحت هذه الدول تتنافس على التطبيع معه.

تأثر محور الاستبداد العربي بأحداث الربيع قبل ثماني سنوات، وهول الصدمة جعلته يتخبط في التعامل معه، خاصة بعد أن حلّ الربيع بأحد أقطابه الرئيسية، وهي مصر، فحاولت الإمارات التماهي معه بادعاء دعمها  لحرية الشعوب، ولاذت السعودية بالصمت أحيانا وبالتحذير منه بفتاوى معلبة أحيانا أخرى.

أما مصر، فلم تجد الفرصة لإبداء موقف حياله بعد انتفاضة المصريين، مما تسبب في إعادة تشكيل هذا المحور لنفسه من حيث أقطابه وأهدافه، حيث نجح في إعادة مصر إلى المحور بعد سنتين من القطيعة "ذاق فيهما المصريون طعم الحرية"، وتبلورت أهداف وآليات جديدة لعمل المحور، أبقت على الهدف الأساس، وهو التطبيع مع إسرائيل والتماهي مع الصهيونية الأمريكية، صاحبة النفوذ في واشنطن، وتغيرت آليات عمله إلى وأد كل ما من شأنه أن يؤدي إلى امتلاك الشعوب العربية إرادتها في اختيار حكامها.

بدا ذلك واضحا من خلال دعم الإمارات والسعودية للانقلاب في مصر، وزرع الفوضى في اليمن، والتي تسببت في "مأساة القرن"، كما عبّر مكتب الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، ومحاولة التمكين لانقلابي آخر في ليبيا، ولا زالت المحاولة مستمرة، والتدخل السلبي في سوريا الذي أسهم في بقاء الأسد. ولم ينجُ من تدخلهم لإعادة الاستبداد غير تونس؛ التي استطاعت نتيجة الوعي المجتمعي للشعب التونسي والنخب التونسية، أن تتفطن لهذا الأمر والوقوف ضده.

بتفصيل بسيط لتدخل هذا المحور في ليبيا، يمكن القول إنه بدأ بعد أول انتخابات ديمقراطية في 2012، والتي شهد العالم بنزاهتها، من خلال خلق كتلة سعت علنا للانقلاب على الجسم الذي هي أحد مكوناته، بل الأكثر عددا فيه، من خلال دعم مليشيات انقلابية، وبعد إخفاقها، تم الاتجاه إلى صنع عميل لهذا المحور، ووجد ضالته في "حفتر" الذي أعلن انقلابه في طرابلس عبر قناة العربية، مجمّدا الإعلان الدستوري الذي يحكم العملية السياسية آنذاك، دون ذكر كلمة "الإرهاب" ولو لمرة واحدة، قبل أن يلجأ لهذه الشماعة في بنغازي، ونجح فيها لعوامل كثيرة؛ تبدأ بوجود جيوب للإرهاب في المدينة، وتنتهي بعامل الجغرافيا الذي مثّله النظام المصري القريب من برقة والداعم لتوجهات هذا المحور بضرورة حكم البلاد عسكريا.

ورغم تنازل التيار الوطني في ليبيا، من خلال القبول بحفتر كقائد للجيش شرط وجوده داخل إطار دولة مدنية، إلا أن حفتر أبى إلا أن يُدخل البلاد في أتون حرب جديدة، بعد هجومه على العاصمة طرابلس بهدف السيطرة عليها، دون أية حسابات للواقع الموجود أو الخارطة العسكرية على الأرض.

إن الرأي الذي يقول إن الهدف الرئيسي لهذا المحور هو حماية إسرائيل هو رأي لا يخلو من صحة، فأطراف هذا المحور تدرك تمام الإدراك أنه ما من شيء يشكل خطورة على وجودها أكثر من امتلاك الشعوب لحريتها وحقها في اختيار حكامها وتقرير مصيرها، وهي تشترك في هذا مع الكيان الصهيوني؛ الذي قال رئيس حكومته إن "العائق أمام توسيع السلام في المنطقة يكمن في معاداة الشعوب العربية لإسرائيل، وليس في قادة دولهم".

ورغم غزارة الدعم والعطاء غير المحدود الذي يتلقاه حفتر من هذا المحور، إلا أنه لم ينجح في حكم ليبيا والسيطرة عليها، وعدوانه الأخير على العاصمة هو هدف سجّله في مرماه؛ لأنه استنفر دون أن يقصد كل القوى المؤمنة بالدولة المدنية، وأعاد توحيد الصفوف الثائرة على الاستبداد بعد أن فرقتهم السياسة. والنموذج التونسي الذي قضى على الاستبداد أثبت أن التغلب على هذا المحور يتجسد فقط بالتمسك بإرادة الشعوب، التي هي من إرادة الله "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".