صحافة دولية

NYT: كيف أصبحت إسطنبول جنة المنفيين العرب وإعلامهم؟

نيويورك تايمز: المنفيون العرب ينطلقون بحرية في اسطنبول- أ ف ب

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا لمراسلها بن هبارد، يقول فيه إن مدينة إسطنبول أصبحت عاصمة للإعلام العربي المعارض. 

 

ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أنه بعد سحق الربيع العربي تحت أقدام الأنظمة الديكتاتورية العائدة، أو تحوله إلى حروب أهلية، فإن إسطنبول أصبحت عاصمة للكثير من الساسة والناشطين والثوريين والصحافيين العرب، الذين حاولوا دفع التاريخ باتجاه مختلف في بلادهم، حيث يبنون في إسطنبول حياة جديدة، ويواصلون القتال عن بعد، متجنبين الاعتقال في بلادهم أو ما هو أسوأ. 

 

وفيما يلي النص الكامل للتقرير من ترجمة "عربي21":

 

يبدأ المنتج في العد – "ثلاثة، اثنان، واحد" – بينما تنبعث الموسيقى لتؤذن بانطلاق حلقة جديدة على الهواء مباشرة من البرنامج الإخباري "سوريا اليوم"، في هذه القناة التي تبث برامج مؤيدة للمعارضة موجهة للسوريين المنتشرين حول العالم بفعل الحرب الأهلية. 

تنبعث يومياً برامج معارضة مشابهة من إسطنبول حيث يتحدى إعلاميو المعارضة الذين قدموا من مصر واليمن ومن مختلف أنحاء العالم العربي أنظمة الحكم المستبدة، متخذين من عاصمة الإعلام التركية ملاذاً آمناً لهم. 

بينما كانت انتفاضات الربيع العربي تداس تحت أقدام الطغاة المستبدين أو تتحول إلى حروب أهلية بشعة، برزت إسطنبول كعاصمة إقليمية يأوي إليها الكثير من السياسيين والنشطاء والثوار والإعلاميين الذين حاولوا دفع مسار التاريخ في اتجاه مختلف داخل البلدان التي نشأوا فيها ولكنهم أخفقوا. 

بدأوا في إسطنبول حياة جديدة، وراحوا يمارسون النضال عن بعد متجنبين بذلك التعرض للسجن، أو ربما ما هو أسوأ من السجن، داخل أوطانهم.

ينحدر المنفيون في إسطنبول من جافة أرجاء الوطن العربي، فهناك أعضاء الإخوان المسلمين الذين جاءوا من مصر، وهناك الثوار الذين قاتلوا في كل من سوريا وليبيا، وهناك النشطاء السياسيون من العراق ومن اليمن، وهناك المنشقون من المملكة العربية السعودية ومن الأردن، وهناك حتى أعضاء سابقون في البرلمان الكويتي. 

وكلهم جاءوا إلى هنا لسبب رئيسي واحد. 

يقول عزام التميمي: "لا يوجد مكان آخر يذهبون إليه." وعزام التميمي هو مؤسس قناة الحوار التلفزيونية التي طالما شكلت منصة للمعارضين العرب. ومع أن القناة تتخذ من لندن مقراً لها، إلا أنها قامت مؤخراً بفتح استديو في إسطنبول لأن ذلك يسهل عليها الحصول على ضيوف للمشاركة في برامجها. 

ويضيف التميمي: "كلهم باتوا هنا."

تتضافر في إسطنبول مجموعة من الصفات الجاذبة للمعارضين العرب، فهي مدينة ذات أغلبية مسلمة، وتقع على مسافة قريبة من أوطانهم، وبها بنية تحتية حديثة ومتقدمة في مجال الاتصالات، وتنعم بمناخ متسامح نسبياً. كما أن من الأمور المساعدة بهذا الشأن أن تركيا أكثر انفتاحاً على اللاجئين العرب من الولايات المتحدة أو أوروبا. 

بالنسبة لحكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يعتبر الترحيب بالمنفيين العرب في تركيا استمراراً للدعم الذي منحته للانتفاضات العربية ذاتها. 

ما من شك في أن السماح للمعارضين البارزين بممارسة النشاط من إسطنبول يعزز من شعبية أردوغان لدى كثير من العرب – ويعزز من نفوذه في أرجاء العالم العربي – مع أن ذلك من شأنه أن يغضب زعماء البلدان المجاورة له. 

يقول ياسين أقطاي، العضو البارز في حزب العدالة والتنمية الذي يترأسه السيد أردوغان: "في بعض الأحيان نسمع بعض البلدان تقول إن لديكم بعض الناس الذين يعارضوننا، والذين يبثون ضد مصر، على سبيل المثال. ونحن بدورنا نقول لهم إن هناك الكثير من الأشياء التي نحتاج لأن نبث ضدها لأنها تمثل انتهاكات لحقوق الإنسان."

إلا أن المفارقة المرة أن انفتاح تركيا على المعارضين العرب الذين يحتجون على انتهاكات حقوق الإنسان لا يخفى مغزاه على المعارضة وعلى وسائل الإعلام داخل البلاد. 

فمنذ المحاولة الانقلابية الفاشلة على السيد أردوغان في عام 2016، تم سجن الآلاف من الأكاديميين والمحامين والصحفيين والسياسيين المعارضين، وتقول منظمة العفو الدولية إن ما لا يقل عن مائة وثمانين وسيلة إعلام تم إغلاقها. 

بمعنى آخر، لا يقتصر الأمر على تمتع المنفيين العرب هنا بقدر أكبر من حرية التعبير التي قد تتاح لهم في أوطانهم، بل تجدهم في بعض الأوقات في وضع أفضل بكثير من وضع نظرائهم الأتراك. 

يقول أيمن نور: "لدي رسالة أؤديها هنا في إسطنبول، والأتراك لا يتدخلون في عملنا السياسي والإعلامي." وأيمن نور عضو برلمان سابق ترشح للرئاسة في مصر قبل أكثر من عقد من الزمن، وقضى وقتاً في السجن، ثم خرج من البلد بعد أن استولى الرئيس عبد الفتاح السيسي على السلطة في انقلاب عسكري. 

ويضيف: "لا يوجد منا من يتخلى عن فكرة أننا سنعود يوماً إلى الوطن. نحن لسنا مهاجرين، بل نحن منفيون."

إلا أن سمعة المدينة كملاذ آمن تعرضت لتشويه خطير في العام الماضي بسبب مقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي على يد عملاء سعوديين داخل قنصلية المملكة في إسطنبول. وبسبب عملية الاغتيال تلك دب الرعب في أوصال مجتمع العرب المنفيين في المدينة لأن كثيرين منهم اعتبروه واحداً منهم، وباتوا يخشون على أنفسهم من التعرض لمصير مشابه. 

إلا أن أيمن نور، الذي كان يتحدث من داخل مكتبه الفاره والذي يشرف منه على إدارة قناتين تلفزيونيتين معارضتين للنظام المصري، يرى أن السخط الدولي الذي ولدته عملية الاغتيال لربما منح في واقع الأمر المزيد من الحماية للمنفيين، وذلك لأن الحكومات العربية ستفكر مرتين الآن قبل أن تجازف بتوريط نفسها فيما سيعود عليها بسخط عالمي كذلك الذي حاق بالسعوديين. 

كما يوجد داخل مكتب أيمن نور مقر المجلس العربي للدفاع عن الثورات والديمقراطية، وهو عبارة عن جمعية ديدنها الإبقاء على ما يسميه أعضاؤها "الروح الحقيقية للربيع العربي"، بحسب ما يقوله السيد نور. 

من الأعضاء الآخرين في المجلس توكل كرمان التي فازت بجائزة نوبل في عام 2011 على دورها في انتفاضة اليمن. 

تشرف السيدة توكل كرمان على قناة تلفزيونية يمنية تبث من إسطنبول اسمها "تلفزيون بلقيس"، والتي تعرض مكتبها الأصلي في عام 2014 للاقتحام من قبل المتمردين الحوثيين عندما استولوا على العاصمة اليمينية صنعاء. 

تعليقاً على نشاطها الإعلامي في إسطنبول، تقول السيدة كرمان: "إن أهم شيء هو الإبقاء على جذوة الربيع العربي حية والاستمرار في النضال من أجل الحرية والديمقراطية."

بينما يتمكن المصريون والسوريون واليمنيون في إسطنبول من الهجوم على حكوماتهم دونما شرط أو قيد، لا ينعم جميع المعارضين العرب بنفس الحرية، وهنا يتجلى بوضوح كيف تؤدي علاقات تركيا الخارجية إلى تباينات في المعاملة. 

خذ على سبيل المثال المعارضين من المملكة العربية السعودية، الذين يطلب منهم البقاء هادئين حتى لا يتسببوا في الإضرار بالعلاقات التركية السعودية، وذلك بحسب ما صرح به أحد المنفيين السعوديين في إسطنبول والذي تحدث مشترطاً عدم الإفصاح عن هويته حماية لعائلته التي منعت من مغادرة المملكة واللحاق به. 

عندما اختارت تركيا ملاحقة المملكة العربية السعودية بسبب مقتل خاشقجي فقد فعلت ذلك من خلال تسريب المعلومات إلى وسائل الإعلام لإحراج المملكة وحشرها في الزاوية – وليس من خلال السماح للمعارضين بانتقاد الحكومة السعودية. 

إضافة إلى الحريات النسبية في تركيا، والتي تشكل جزءاً كبيراً مما يستهوي المنفيين بشأنها، هناك أيضاً التشابه الكبير بين الثقافة التركية والثقافة العربية. 

ما من شك في أن تدفق ما يقرب من 3.6 مليون لاجئ فروا من الحرب في سوريا قد عزز السمة العربية لإسطنبول، وبات شائعاً أن تسمع اللغة العربية ينطق بها الناس في شوارع بعض الأحياء، كما انتشرت في أرجاء المدينة المطاعم والمخابز والأندية والمساجد العربية. 

يقول السيد التميمي، مؤسس قناة الحوار: "يشعر المنفيون في إسطنبول أنهم في وطنهم."

ليس كل المنفيين هنا عازمين على الاستمرار في النضال، بل بعضهم يسعى لبناء حياة جديدة ينأون بها عن ماضيهم الثوري. 

قبل سنوات قليلة كان مجدي نعمة ناطقاً رسمياً باسم جيش الإسلام، وهي مجموعة قوية من الثوار الذين قاتلوا ضد قوات الحكومة السورية. كان في تلك الأيام يستخدم الاسم الحركي إسلام علوش ويرتدي سترة عسكرية مموهة، ويتصدر لإلقاء البيانات الصارمة حول النشاطات التي تقوم بها المجموعة. 

إلا أنه ترك موقعه وتخلى على إثر مقتل زعيم المجموعة في غارة جوية في عام 2015 واستقر في إسطنبول حيث يحضر للماجستير في العلوم السياسية في إحدى الجامعات التركية. 

على الرغم من أن السيد نعمة، البالغ من العمر واحداً وثلاثين عاماً، قضى ستة شهور في أوروبا، إلا أنه اختار العيش في تركيا لأنه وجد أوروبا باردة، ولأنه كان من الصعب عليه الحصول على إقامة هناك، وكذلك لأنه كان قلقاً من أنه قد يتناول عن طريق الخطأ منتجات لحم الخنزير، الذي يحرم عليه بكونه مسلماً. 

أما في إسطنبول، فلحم الخنزير نادر، والمساجد منتشرة في كل مكان، ولا تأبه الأجهزة الأمنية التركية بلحيته الطويلة. 

يقول السيد نعمة: "لا يتبعونك، ولا يزعجونك، ومن الواضح أنهم كانوا يدعمون الثورة."

يقوم حالياً بتعلم اللغة التركية، ويفكر بالمضي قدماً في التحضير للدكتوراه، وخاصة أنه كاد أن يفقد الأمل في أن يتيح له المسار الحالي للحرب بالعودة إلى سوريا في المستقبل المنظور. 

وفي ذلك يقول: "إذا لم تكن الثورة قد أخفقت حتى الآن، فلا مفر من أن مصيرها الإخفاق. ولذلك لابد من شيء آخر."



لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)