قضايا وآراء

الاقتصاد التركي: بين الواقع والحلول

1300x600

سجل الاقتصاد التركي ارتفاعا ملحوظا خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، في ظل حكومة العدالة والتنمية، إلا أن الأزمات السياسية التي عاشت تركيا خلال عام 2018، وتقلبات العلاقات الدولية؛ أثرت سلبا على الاقتصاد التركي، مما أدى إلى تراجع قيمة الليرة التركية وارتفاع التضخم.. هذه الوضعية الاقتصادية كانت مادة دسمة للأحزاب التركية المتنافسة في الانتخابات البلدية الحالية، خصوصا وأن الشارع التركي على بعد أيام قليلة للحسم في أمر الحزب الذي سيفوز بهذه الانتخابات.

وفي ظل احتدام المنافسة السياسية في الحملات الانتخابية البلدية الحالية بين الأحزاب القوية داخل المشهد السياسي التركي، خصوصا بين حزبي العدالة والتنمية التركي وحزب الجمهوري، يبقى الاقتصاد التركي أحد المحاور الأساسية والمركزية في الحملات الانتخابية الحالية التي تركز عليها الأحزاب من أجل الظفر بأصوات الناخبين الأتراك. فما حقيقة وضعية الاقتصاد التركي الحالي؟ وكيف تعاملت الدولة التركية مع هذا الواقع؟

حققت تركيا نموا اقتصاديا سنة 2017 قُدر بنسبة 7.4 في المئة، لتكون الأسرع نموا ضمن مجموعة الدول العشرين. ويقدر إجمالي الناتج المحلي لتركيا 850 مليار دولار، لكنها في المقابل سجلت عجزا في الميزان التجاري قيمته 60 مليار دولار، حيث أن الواردات التركية بلغت 225 مليار دولار عام 2017، فيما بلغت الصادرات التركية 165 مليار دولار في نفس العام. هذا العجز راجع بالاساس الى وارداتها الكبيرة من النفط والغاز، حيث تستورد تركيا أكثر من 60 في المئة من احتياجاتها لمصادر الطاقة.

 

العجز في الميزان التجاري التركي هو المشكلة الأولى في تركيا، والطاقة هي السبب الرئيسي في هذه المشكلة

ويعتبر العجز في الميزان التجاري التركي هو المشكلة الأولى في تركيا، والطاقة هي السبب الرئيسي في هذه المشكلة. فرغم قدرة الاقتصاد التركي الكبيرة على الإنتاج، إلا أن جزءا مهما من الصادرات التركية كبير الحجم وقليل الثمن، أي أن نسبة ما تصدره تركيا من التكنولوجيا قليل، والحل لمواجهة فاتورة الطاقة التي أرهقت كاهل الاقتصاد التركي هو أن يتم تعويضها بتصدير منتوجات تكنولوجية غالية الثمن قليلة الوزن، وهذا ما تسعى له تركيا منذ سنوات.

وإن كانت تركيا قد سددت في عهد حزب العدالة والتنمية كل ديونها لصندوق النقد الدولي عام 2013، وعملت على تصفير وغلق ملف الديون التي كانت تزيد عن 23 مليار دولار؛ راكمتها خلال 19 عاما، إلا أن ديونا أخرى ما زالت تؤرق الاقتصادي التركي.، ومنها الدين الصافي للشركات التركية في القطاع الخاص؛ الذي بلغ أكثر من 300 مليار دولار عام 2018، وهناك ديون على الحكومة التركية من الخارج تقدر بحوالي 180 مليار دولار، بمعنى أن إجمالي الديون التركية الخارجية يقدر بـ480 مليار دولار.

هذه الديون، حسب خبراء اقتصاديين، لا تشكل عبئا مباشرا وخطيرا على الاقتصاد التركي؛ لأن هذه الديون نسبتها من نسبة الناتج المحلي القومي التركي تقارب 50 في المئة إجمالا. ومع هذه النسبة، تحتل تركيا المرتبة 23 في الترتيب العالمي. وهناك دول تفوق نسبة ديونها نسبة الناتج المحلي، كالولايات المتحدة الامريكية واليابان وكوريا الجنوبية. فأمريكا مثلا تقدر نسبة ديونها 110 في المئة، واليابان تصل 216 في المئة، من الناتج المحلي القومي.

 

الديون، حسب خبراء اقتصاديين، لا تشكل عبئا مباشرا وخطيرا على الاقتصاد التركي؛ لأن هذه الديون نسبتها من نسبة الناتج المحلي القومي التركي تقارب 50 في المئة إجمالا

من جهة أخرى، عرفت الليرة التركية انخفاضا في عام 2018، بلغ أكثر من 40 في المئة من قيمتها، مما أثر على نسبة التضخم في تركيا، حيث يعتبر الأعلى مستوى منذ 2003. وحسب البيانات الرسمية التركية، فإن معدل التضخم في البلاد ارتفع سنة 2018 إلى 25 في المئة. لكن الحكومة التركية تعتبر التقلب في أسعار العملة "ألاعيب"، وليس لها عمق أو سبب اقتصادي.

إذا كانت الأسباب الاقتصادية تعد عاملا رئيسيا في ما حصل للاقتصاد التركي، لكنها تبدو غير كافية لتفسير سرعة تراجع الليرة ودرجة تدهورها أمام العملات الاجنبية. وفي هذا الإطار، يأتي البعد السياسي والخارجي الذي يعتبر من أهم أسباب تدهور الليرة التركية مؤخرا.

وبالإضافة إلى البعد الخارجي، هناك بعد داخلي يتعلق بالسياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها تركيا، حيث تحدث بعض الاقتصاديين عن بعض المشاكل والأخطاء في السياسة المالية، مثل اعتماد الاقتصاد التركي الكبير على القروض القصيرة المدى التي تسمى "بالأموال الساخنة"، حيث ازدادت الاستثمارات الساخنة (أي الانية التي تعتمد على اقتناص الفرص) على حساب "الاستثمارات الباردة" (أي الاسترتيجية الطويلة الأمد).

 

بالإضافة إلى البعد الخارجي، هناك بعد داخلي يتعلق بالسياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها تركيا، حيث تحدث بعض الاقتصاديين عن بعض المشاكل والأخطاء في السياسة المالي

من جهة أخرى، تعتمد تركيا سياسة تعويم العملة، وبالتالي فالعملة التركية تخضع لقانون السوق، أي لقانون العرض والطلب، ولا تتدخل الدولة في تذبذب أسعار العملات بشكل عام. وإذا كانت أزمة الليرة التركية قد أدت الى ارتفاع ثمن المواد المستوردة من الخارج، إلا أن أزمة الليرة بالمقابل أثرت إيجابا على قطاع السياحة. والسياحة من جانب آخر يمكن أن تكون إحدى أهم وسائل العلاج لهذه الأزمة؛ لأن قطاع السياحة يدخل العملة الصعبة بشكل صاف إلى الدولة التركية، حيث بلغت مداخيل قطاع السياحة 32 مليار دولار عام 2018. فقد زار تركيا العام الماضي 40 مليون سائح، واحتلت تركيا بذلك المركز السادس عالميا من حيث عدد السياح، وبلغت تغطيتها لعجز الميزان التجاري حوالي 40 في المئة. كما استفاد قطاع المراكز التجارية وقطاع الخدمات بشكل عام؛ في ظل الارتفاع الكبير في أعداد السياح لعام 2018. لهذا، تسعى تركيا هذا العام جاهدة إلى الرفع من عدد السياح، حيث تخطط لجذب أكثر من 48 مليون سائح خلال عام 2019، بإيرادات أعلى قد تصل إلى 35 مليار دولار أمريكي. كما ستعطي الحكومة التركية في المرحلة القادمة الأولوية للاستثمار في الصناعات الدوائية والطاقة والبتروكيمياويات، من أجل تقليص عجز ميزان المعاملات التجارية.

من جهة أخرى، أعلن وزير الخزانة والمالية التركي براءت ألبيرق، خلال مؤتمر اقتصادي في أيلول/ سبتمبر الماضي، عن الخطة الاقتصادية الجديدة المتوسطة المدى، حيث أكد على ثلاث قواعد رئيسية يقوم عليها البرنامج الاقتصادي الجديد لبلاده، وهي التوازن والانضباط والتغيير، موضحا أن وعود الخطة سيتم تنفيذها على مدى الأعوام الثلاثة القادمة.

وحدد أهداف النمو في البرنامج الاقتصادي الجديد للعام الحالي بـ2.3 في المئة، و3.5 في المئة لعام 2020، و5 في المئة في العام التالي. وأشار إلى أن تركيا حددت أهدافها بشأن التضخم في البرنامج الجديد عند 15.9 في المئة للعام المقبل، و9.8 في المئة لعام 2020، و6 في المئة للعام التالي. وكشف عن إنشاء مكتب للإشراف على التدابير المتعلقة بخفض الإنفاق، بميزانية قدرها 76 مليار ليرة (12.2 مليار دولار) وزيادة الدخل.

 

تعد الأسباب الاقتصادية عاملا رئيسيا في ما حصل للاقتصاد التركي، لكنها تبدو غير كافية لتفسير سرعة تراجع الليرة ودرجة تدهورها أمام العملات الاجنبية

وختاما، تعد الأسباب الاقتصادية عاملا رئيسيا في ما حصل للاقتصاد التركي، لكنها تبدو غير كافية لتفسير سرعة تراجع الليرة ودرجة تدهورها أمام العملات الاجنبية. لذا، فإنه يوجد رابط مباشربين الأزمة الاقتصادية التركية وبين البعدين الخارجي والسياسي، خصوصا وأن تركيا تعرف هذه الأيام انتخابات بلدية مصيرية.

ويبدو أن اقتصاد تركيا يتميز بالصلابة والاستعداد لاجتياز العديد من العقبات، الصعبة في ظل البرنامج الحكومي الذي فرض حزمة من الإجراءات الاقتصادية؛ التي من المحتمل أن تساهم في تحويل دفة المؤشرات الاقتصادية إلى أداء إيجابي. كما أن إرادة الحكومة وإصرار الشعب التركي كفيلة بدفعه قدما للتغلب على الأزمات التي تمر منها تركيا.