قضايا وآراء

التمكين في فكر الحركات الإسلامية: بين الوهم والحقيقة (2-2)

1300x600
لقد استغل الحكام الشعوب لعقود؛ بحديث مكذوب موضوع، كما قال أهل العلم وهو "كما تكونوا يولي عليكم". وللأسف، وقعت كثير من الحركات الإسلامية في هذا الفخ خطأ أو عمدا. فأما من أخطأوا فقد انتظروا إصلاح جل المجتمع قبل أن ينازعوا الحكام الفاسدين الأمر، مع أن رسول الله صالله عليه وسلم    أقام دولته في المدينة ومعظم سكانها من اليهود والمنافقين وغير المسلمين. وأما الذين تعمدوا، فقد رأوا في هذا الحديث الموضوع وسيلة للهروب من استحقاقات الوقوف في وجه الحكام المستبدين، وإلقاء اللائمة على جموع الناس.

في الماضي، هل نعتبر أن المجتمع المسلم في زمن سلمان بن عبد الملك كان مجتمعا لا يستأهل التمكين، وأنه في ليلة واحدة، حين استخلف سلمان بن عبد الملك؛ عمر بن عبد العزيز أصبح هناك تمكين للحاكم الصالح الذي جسّده ابن عبد العزيز؟ وماذا قامت به الأمة الإسلامية في غضون عام واحد لتنتقل من التمكين الشكلي إلى التمكين الحقيقي؟ وفي عهد صلاح الدين وقطز، ماذا فعلت الأمة لترتفع إلى عنان السماء ثم لم تلبث أن تهوي لدرك الضياع فور وفاة كليهما؟

سيقول البعض: وكيف تفسر قول الله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا".

بداية نرجع إلى سبب نزول الآية، عن أبي بن كعب قال: قدم النبي صلى الله عليهوسلم  وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة: فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أننا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله عز وجل؟ فأنزل الله تعالى على نبيه: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات" إلى قوله: "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" يعني بالنعمة. فأظهر الله تعالى نبيه على جزيرة العرب، فوضعوا السلاح وآمنوا" رواه الحاكم.

وفي تفسير القرطبي: "قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد. قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه تتضمن خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؛ لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات. وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره. وحكى هذا القول القشيري، عن ابن عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا. قال سفينة: أمسك عليك: خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرا، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستا". فالتمكين للفئة المؤمنة ليس حالة أبدية لا تنتهي.

وهذا لا ينفي رأي بعض المفسرين بأنه يمكن أن تفهم الآية على عمومها لا على خصوصية سبب النزول، ولكن ما أميل إليه هو أن التمكين حاله يمنحها الله في وقت ما لقوم ما ولحكمة ما، وإلا فلماذا لا نعمم مفهوم التمكين والاستخلاف أيضا لليهود، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام، أنه قال لقومه: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وقال تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون".

لقد مكن الله لبني إسرائيل بضع سنين ثم كتب عليهم التيه سنينا مضاعفة ثم لعنهم وسلط عليهم من يسومهم العذاب الي يوم القيامة "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب". وبناء عليه، يصبح التمكين والوصول إلى السلطة مشيئة إلهية، وتحقيق النصر والثبات على الحق واجبا بشريا لا يتم إلا بالعون الإلهي. وطلب السلطة ليس حراما ابتغاء مرضاة الله، ولكنه ليس هدفا يجب على كل مسلم أو أي جماعة أن تحققه. كما أن هذا لا يعني أن يترك المسلمون أمر الحكم ليقوم به من قام، أفسد أو أصلح، أو أنهم لا ينازعون السلطان الجائر ويؤطروه على الحق، ولا يعني أن لا يهتم المسلمون باختيار الحاكم الصالح.

ولكن يظل السؤال مطروحا: هل العمل للتمكين فرض عين أو فرض كفاية أو واجب أو سنة أو ماذا؟ إن الإجابة على هذا السؤال المحدد من أهم ما يجب على علمائنا الأجلاء أن يوضحوه لعموم المسلمين؛ لأنه لو كان فرض عين أو كفاية، فإن أكثر من 99 في المئة من المسلمين لا يقومون به، ومن ثم هل يصبحون مرتكبي كبائر؟ وإذا أنكره بعضهم، هل هم كفار لإنكارهم فرضا من فروض الدين؟

إن ما صنفه العلماء الأجلاء في مسألة التمكين، وما اشترطوا فيه من شروط على عموم المسلمين أن يقوموا بها ليصلوا إلى السلطة والتمكين لدين الله، يجافي الواقع والماضي والمنطق.

التمكين لدين الله في الأرض هو أن تنشر فكر هذا الدين وقيمه ومقاصده في ربوع الأرض، وأن تحث الناس على العمل بهذه القيم، وعلى أن تكون حياتهم على نهج هذا الدين. التمكين للمفاهيم والقيم لا للأشخاص والجماعات والأحزاب، والاجتماع على لب الدين أولى من التفرق على مظاهره وشعائره.

إن التقدم الحضاري ضرورة من ضرورات الحياة وهدف حث عليه الشرع، لكنه لا يعني أن نغض الطرف عن الكليات الخمس التي رعاها الإسلام، من حماية الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ولا يعتبر الإسلام (في وجهة نظري) ممكنا في دولة لا تراعي هذه الأساسيات ولا تلقي بالا لحقوق الإنسان.

على سبيل المثال، في بعض عصور حكام الدولة الإسلامية الأموية والعباسية انتهكت كل الحرمات، بما فيها حرمة الدماء وحرمة الكعبة الشريفة نفسها، على الرغم من اتساع رقعة الدولة الإسلامية في تلك العصور، فلا أرى مطلقا أنه في ظل المجازر التي ارتكبت في بعض هذه العصور أنه في وقت حدوث هذه الفظائع كان الإسلام ممكّنا، بل كان الحاكم ممكّنا، وإن كان الملك يمتد من أدنى الأرض إلى أقصاها.

أتفهم أنه على كل مسلم أن يختار الأصلح لتولي السلطة، وأتفهم أيضا أن الأصلح لا يعني الأتقى، وأن إمامة القوي الفاسق خير من التقي الضعيف، وأتفهم واجب كل مسلم للنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لكن ما لا أفهمه هو كيف يصبح واجبا شرعيا على أي حركة أو جماعة أن تصل إلى السلطة؟

وهل إذا وصل إخواني أو من يحمل فكر الإخوان إلى السلطة؛ يصبح السلفيون فاشلون وعليهم تغيير هذا الحاكم بآخر سلفي؟!

الشاهد أنه لا يجب أن تضع أي حركة إسلامية الوصول الي السلطة في أهدافها، وأن يكون دورها في اختيار الأصلح وإرشاد الناس لاختيار الأصلح ودعم وصول الأكفاء المصلحين إلي مختلف دوائر ومستويات صنع القرار وإصلاح ونصح من في الحكم وقول الحق لا يخافون فيه لومة لائم بآداب النصيحة التي أرشدنا اليها الشرع.

إن الإحباط الذي أصاب كثيرا من أعضاء الحركات الاسلامية في عالمنا الإسلامي في أعقاب الخريف العربي؛ ناتج من كونهم عاشوا حياتهم من أجل التمكين والوصول للسلطة، ولما بلغوها لم يلبثوا فيها إلا قليلا، ومن ثم انقلبت حياتهم رأسا على عقب وسمعت البعض يقول، وهل ضاع عمرنا وأجيالا من قبلنا هباء منثورا؟ ولهؤلاء أقول: كلا وألف كلا. لقد انتصرتم حين قدمتم الخير للناس، وانتصرتم حين لم تكونوا فسدة ولا خونة وأنتم في السلطة، وانتصرتم حين ثبتم على مبادئكم وضحيتم بالغالي والنفيس من أجل الحق الذي آمنتُم به. ولكن هذا لا يعني ألا نستفيد من تجاربنا، وألا نطور أفكارنا ومؤسساتنا.. وتذكروا أن من لا يتجدد يتبدد.

أن تنصر الله هدف لا بد أن تحققه، وأن تحكم قيم الدين هو ما تسعى إليه، تحقق أم لم يتحقق، لكن أن تحكم حركتك أو جماعتك ليس همك. إن تمكين قيم الدين مسؤولية جماعية للأمة لا ينوب فيها أحد عنها، ولا تنتظر صلاح دين غالبية الشعب. فالإصلاح من الأسفل دون التغيير من الأعلى لن يرفع بنيانا لأمة.. توافقوا مع الناس على قيم الدين ليمكّن لهذا الدين.