قضايا وآراء

المسجد الأقصى والمسؤوليّة الفرديّة

1300x600
في ظلّ ما يتعرّض له المسجد الأقصى المبارك من مخاطر متصاعدة وصلت إلى حدّ إغلاقه ومنع الصّلاة والأذان فيه لبعض الوقت؛ نشهدُ حالة من التّطبيعِ النّفسي مع الأحداث الصّادمة والجرائم التي تستهدف حرمته ووجوده.

حالةُ التّطبيع النّفسيّ هذه تتجلّى في ردود الفعل الشّعبيّة؛ التي لم تكن أحسن حالا من ردود الفعل الرسميّة على الجريمة المستمرّة.

التّخدير باسم المجموع

فور حدوث انتهاك لحرمة المسجد الأقصى المبارك يهرب المرء من مسؤوليّته الفرديّة بالتّركيز على المسؤوليّة الجماعيّة فتتصاعد الصّيحات؛ ‏أينَ الأمّة؟ أين الحكّام؟ أين العلماء؟ أين الجماعات الإسلاميّة؟ أين المسلمون؟

ويكون الهروب أحيانا إلى التّاريخ من خلال السّؤال الاستجدائيّ: أين أنت يا عمر؟ أينَ أنت يا صلاح الدّين؟

وتبدأ بعدها الهجائيّات وحملات الذّم بالحكام الخونة المفرّطين، والأمّة الغافلة النّائمة، والجماعات الإسلاميّة المنشغلة بخلافاتِها وصراعاتِها عن قضيّتها الأساسيّة، والمسلمين الغارقين في الأهواء والشّهوات.

ولا يكادُ يخلو منبرٌ شخصيّ أو مسجديّ أو إعلاميّ من هذه الصّيحات الصّادقة المخلصة التي تعبّرُ عن حرقةٍ حقيقيّة.

ولكن في غمرة الغرق في هذه الأسئلة عن الجميع، من حكّام وعلماء ومسلمين واهنين وأمّةٍ نائمة، يغيب السّؤال الأهمّ، عن المتحدّث، وهو أين أنا؟!!

أينَ أنا من هذا الذي يجري؟! فإن غاب الحكّام والعلماء والأمّة والمسلمون؛ فهل أنا قد حضرت؟! ولئن ناموا فهل أنا قد استيقظت؟!

يغدو الحديثُ المتكرّرُ عن مسؤوليّة الأمة والحكّام والعلماء والجماعات الإسلاميّة ضربا من التّخدير الفعّال، للتّحلل من المسؤوليّة الفرديّة الذّاتيّة تجاه ما يجري للمسجد الأقصى المبارك.

إنَّ تحميلَ هؤلاءِ جميعا مسؤوليّاتهم أمرٌ ضروريّ، غيرَ أنَّ هذا يجعل كثيرا من الذين يفرغون شحنات سخطهم الصّادقة بإنزال جام غضبهم على الآخرين يبرّؤون، أنفسهم إذ لا يلتفتون إلى مسؤوليّاتهم الشّخصيّة.

فالمرء الذي لا يبدأ باتّهام نفسه، والتّفكّر في مسؤوليّته الفرديّة والبحثِ عن آليّات القيام بواجبه الشّخصي؛ لن يبرّئه من تقصيرِه أن يقصّرَ الجميع، ولن يعفيه من مسؤوليّته تخلّي الآخرين عن مسؤوليّاتهم.

وإنّ إيمان المرء بنفسه وقدراته هو مفتاح إيمانه بمسؤوليّته الفرديّة، وإنَّ اقتناعه بحاجة المسجد الأقصى له كحاجته إلى كلّ طاقةٍ أخرى؛ هو من أهمّ عوامل إحياء المسؤوليّة الفرديّة في نفس الإنسان، ولله درّ عليّ رضي الله عنه إذ يقول:

دواؤك فيك وما تُبصرُ
وداؤك منك وما تَشعرُ

وتحسبُ أنك جِرمٌ صغيرٌ
وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

المسؤوليّة الفرديّة نقطة الانطلاق

إنّ وعي المرء بمسؤوليّته الفرديّة، وابتداءه بنفسه في السّؤال عن الواجب والدّور المطلوب، هو نقطة الانطلاق للخروج من حالة الرّكود العامّة في التّفاعل مع الجرائم الصّهيونيّة تجاه المسجد الأقصى. كما أنّه المرتكز الأساسيّ للتّخلّص من ردّات الفعل المشحونة بعاطفةٍ فوّارةٍ سرعان ما تخبو، وتخفّ وتيرتُها مع كلّ رجّةٍ جديدةٍ كما في المياه الغازيّة.

إنّ الوعي الحقيقيّ بالمسؤوليّة الفرديّة تجاه المسجد الأقصى هو الذي يحوّل العاطفة الجيّاشة إلى وقودٍ محرّكٍ لفعلٍ دائمٍ؛ يمكن أن يتمدّد مثل نقطة حبرٍ إذا وقعت في كوب ماء.

إنّ استشعار المرء مسؤوليّته الفرديّة تجاه المسجد الأقصى المبارك هو علامة يقظةٍ وحياةٍ حقيقيّة، فالمرء الذي يسمعُ المسجد الأقصى يستغيث فيحسبُ أنّه هو المقصود بالاستغاثة قبل سواه؛ هو الشّخص القادر على الفعل والبذل والتّغيير.

وقد صدق طرفة بن العبدِ في تعبيره عن ذلك، بقوله في معلّقته الشّهيرة:

إذا القومُ قالوا مَن فَتى؟ خِلتُ أنّني
عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلّدِ

حدود المسؤوليّة الفرديّة

إنَّ مسؤولية الفرد تتفاوت بحسب موقعه ومكانته وتأثيره وعمله ووظيفته وخبرته وعلمه وعلاقاته؛ فكلّما كانت الإمكانات أكبر كانت المسؤوليّة الفرديّة أعظم، وكلّما كانت المكانة والموقع أقوى كانت المسؤوليّة أكبر.

ولا يُعفى أحدٌ من المسؤوليّة، ولا يُعذَر في التّقصير، وقد بيّن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حدود المسؤوليّة الفرديّة في الحديث الصحيح: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته".

فخدمة قضيّة المسجد الأقصى فرديّا تبتدئ في حدود مسؤوليّة المرء؛ المسؤوليّة الشّخصيّة والمسؤوليّة الأسريّة والمسؤوليّة الوظيفيّة والمسؤوليّة التربويّة والمسؤوليّة السياسيّة، وغير ذلك من المسؤوليّات.

فالمسؤوليّة الفرديّة إذن تتناسب طردا مع القدرة على التّأثير، فكلّما كان تأثيرُ الفرد أكبر في محيطه ومجتمعه وبيئته وفي وسائل التّواصل الواقعيّة والافتراضيّة؛ كانت مسؤوليّته الشّخصيّة أكبر في إحياء قضيّة المسجد الأقصى وإبقاء جمرتها متقدة في نفوس مَن يؤثّر بهم، والبحث عن الآليّات العمليّة المعنويّة والماديّة التي يمكنه من خلالها إحداثُ فرق في هذا الواقع الرّاكد، على أن لا يحتقر من الفعل شيئا، ولا يقلّل من أهميّة أيّ جهدٍ يستطيعه؛ فالإنجازاتُ تراكميّة، وكلّ فعلٍ مهما قلّ فله أثره ودوره في تحقيق الثّمار النّهائيّة.

معالم في المسؤوليّة الفرديّة تجاه المسجد الأقصى

ومن البديهيّ أن يكون الحديث التّفصيليّ عن الآليّات العمليّة التي يجب على المرء تحمّلها تجاه المسجد الأقصى المبارك، والإجرام المتصاعد بحقّه حديثا طويلا لا يمكن الإحاطة به، لذلك كان لا بدّ من الإشارة إلى معالم في طريق تحمّل المرء مسؤوليّته تجاه هذه القضيّة الكبرى، من خلال بعض الشّرائح العمريّة والاجتماعيّة.

فالشّاب المبادر قادرٌ على إحداث فرق حقيقيّ من خلال تكثيف الحديث عن ما يتعرّض له المسجد الأقصى المبارك من مخاطر متصاعدة، في سهراته الواقعية وحواراته الافتراضيّة، وعلى حسابات التواصل الاجتماعي المختلفة، وفي جامعته؛ في الاستراحات أو الانشطة الطلّابيّة.

والمرأة التي تغرس حبّ الأقصى في نفوس أبنائها وتربطهم به لا تحتاج إلى أكثر من تحمّل مسؤوليّتها الشخصيّة، لتخلق أسرة مرتبطة بمسرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقلا وقلبا.

والمرءُ في حياته العمليّة يتحمّل مسؤوليّته الذّاتيّة تجاه المسجد الأقصى باستحضاره دون انتظار توجيهاتٍ من أحد.. المدرّس في مدرسته، والموظف في مؤسسته، والعامل في مصنعه، حين يقرّر كلّ واحدٍ منهم أن يكون جزءٌ من دردشاته اليوميّة وقفا على المسجد الأقصى المبارك، وجزءٌ من وقته لحضّ النّاس على البذل والعطاء والدعم.

والكاتب والمفكّر والأديبُ والفنّان يمكنهم أن يجعلوا جزءا من حروفهم وكلماتهم وأغنياتهم ولوحاتهم وفنّهم ورواياتهم لأجل المسجد الأقصى المبارك دون انتظار طلبٍ من أحد، فيكونون عناوين إحياء القضيّة وإبقائها لاهبة فقي النّفوس.

إنّ تحمُّل كلّ واحدٍ من النّاس مسؤوليّته الفرديّة تجاه المسجد الأقصى المبارك على قدر طاقته واستطاعته وجعلها الخبز اليوميّ له؛ هو الذي يتكفّل بتحويلِ القضيّة إلى روحٍ وثّابةٍ لا يقوى أحدٌ على قتلها أو إخمادها، وعندما تتحوّل القضايا إلى أرواحٍ لا يستطيعُ أحدٌ قتلها، فعندها لن يكون بينَ هذه القضايا وبينَ الانتصار أسلاكٌ شائكةٌ أو خنادق لاهبة أو سنواتٌ عجاف.