قضايا وآراء

معوقات نجاح الثورة في دول الربيع العربي (1)

1300x600

عدم تبني مفهومالإبداع الثوري

 

الإبداع مفهوم مرتبط بجميع مكونات الحياة الإنسانية. فالإبداع نشاط عقلي يتحول إلى تطبيق، فيصنع حالة جديدة من الابتكار والتغيير في جميع مجالات الحياة. ومن ضمن هذه الأنشطة مفهوم الثورة وربطها بالإبداع. ولكي تصنع ثورة حقيقية يجب أن تكون مبدعا، فالثورة في الأساس تقام ضد أنظمة دكتاتورية، ومعظم تلك الأنظمة تأخذ جميع احتياطاتها للحفاظ على نفسها من قيام ثورة ضدها تطيح بعروشها وبالتالي فمن ضمن أولوياتها تلك الأنظمة أن تضع الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات لعدم قيام الثورة ضدها، لذلك من الخطأ تكرار أي تجارب ثورية وقعت في الماضي دون دراسة وتحليل ووضع سيناريوهاتها لها، ولن يكون ذلك إلا إذا كان هذا مصاحبا لنشاط وتفكير إبداعي للثورة يقوم به مفكرون ومنظرون للعمل الثوري.

وعلى هذا، نستطيع القول إن الإبداع في العمل الثوري ضرورة من الضرورات، بل لا يمكن قيام ثورة حقيقيه تؤتي ثمارها إلا بأن تكون مبدعة في استراتيجياتها وأفكارها وأدواتها، وأيديولوجياتها أيضا. فالعديد من الباحثين والمنظرين للعمل الثوري على مر العصور ناقشوا مفهوم الإبداع الثوري، حيث أصبح من أهم المفاهيم التي تتداول في الوسط الثوري بين المختصين وغير المختصين من المنظرين للعمل للثوري.

قبل أن نتطرق إلى مفهوم الإبداع الثوري، وجب علينا أن نعرف مصطلح "الثورة" أولا. فلغويا مشتق من الفعل "ثار" بمعنى غضب وصار حادا في التعامل من أجل تحقيق هدف ما. أما اصطلاحيا، فيمكننا القول إنها بعض النشاطات اللفظية والفعلية التي تتبناها وتقوم بها مجموعة من البشر في سبيل الحصول على حقوقا لهم أو المطالبة بتحقيق شيء ما، سواء كان فكريا أو سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو عسكريا أو حضاريا. ويعرفها السياسيون القوميون بأنها حركة سياسية واجتماعية مرتبطة بمواطني دولة ما؛ يحاولون من خلالها نقل آرائهم وأفكارهم للسلطة الحاكمة في دولتهم. ويعرفها الأمميون، مثل "ماركس"، بأنها الثورة الدائمة، أي التي ترفض أن تساوم أي شكل من أشكال السيطرة الطبقية، ولا تقف عند المرحلة الديمقراطية بل تتجاوزها إلى الإجراءات الاشتراكية وإلى الحرب ضد الرجعية التاريخية.. ثورة لكل مرحلة منها جذورها في المرحلة السابقة، ثورة لا تنتهي إلا بالقضاء على المجتمع الطبقي. ويعرفها الليبراليون بأنها نشاط تقوم به مجموعة من الأشخاص لتغيير أوضاعهم السياسية الراهنة نتيجة عدم الرضى عن الوضع السائد في الدولة، أو نتيجة لتطلعات مستقبلية نحو الأفضل، أو بسبب الغضب الذي يصيب الشعوب من سياسات دولة ما. ويكون هذا الفعل بشكلين، أحدهما حدوث تغيير كامل للدستور، والآخر من خلال تعديل الدستور الموجود. فمعظم التعريفات تتفق على مفهوم واحد وهو تغيير وضع ما إلى وضع آخر.

ما هو الإبداع الثوري؟

في واقع الأمر، لا يوجد تعريف محدد وشامل لمفهوم الإبداع الثوري. ولقد عرفة الكثير من مفكري ومنظري الثورات بتعريفات مختلفة ومتابينة، بحسب واقع كل ثورة ومنظريها، لكنها تلتقي في مفهوم الإبداع بشكل عام، كما أسلفنا في المقدمة. ولذلك، يمكننا وضع تعريف مبسط لمفهوم الإبداع الثوري: نشاط ذهني مركب وهادف توجهه رغبة قوية في البحث عن حلول أو التوصل إلى نتائج لم يتوصل لها أحد من قبل، فينتج واقعا ملموسا يستطيع أن ينقل الواقع الثوري من حالة الركود إلى التطور والنجاح. فالإبداع الثوري يرتبط بقدرة الثائر على الإنتاج؛ إنتاجا ثوريا متميزا. 

فالتجديد والتغيير الثوري يجعلان الحركات والجماعات الثورية تتقدم وتنتصر على الأنظمة الدكتاتورية. فالحركات والجماعات الثورية يمكننا أن نصنفها إلى صنفين، الصنف الأول متطور ومبدع وسائر في ركب التغيير للأفضل، والصنف الثاني متقوقع وقانع بأنه استنفذ كل السبل، كمقلد لمن سبق في الماضي، ولا يواكب التغيير، بل أقصى آماله أن يرجع إلى سابق عهده قبل الثورة. وهذا للأسف واقع وتحليل الحركات والجماعات الثورية القائمة، فهؤلاء هم غير المبدعين، والقانعون. ففي أي فئة تريد أن تكون؟ وفي أي فئة تريد أن تكون ثورتك؟ وإذا كنت تبحث طرق نجاح الثورة، فهل ستختار طريق الإبداع الثوري أم التقليد الثوري؟

الثورة البلشفية أحد نماذج الإبداع الثوري:

في هذه الفقرة لست بصدد تأييد الثورة البلشفية، لكني أريد أن أعطي نموذجا ناجحا، يتجلى فيه مفهوم الإبداع الثوري. كانت روسيا القيصرية تضم في ثناياها العديد من القوميات غير الروسية، وكانت هذه القوميات تعاني من الاضطهاد السياسي والاجتماعي والديني والثقافي، وكان هذا النظام يعاني من التخلف في جميع مجالات الحياة الاقتصادية. ومع مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، فقد أدى ذلك للمزيد من الخسائر البشرية والأراضي التي اقتطعت من الدولة مما أدى إلى تنامي روح الثورة في نفوس الشعب. وبدأت المراحل الأولى للثورة في شهر كانون الثاني/ يناير 1917، حيث انطلقت المظاهرات والاضطرابات المنادية بشعارين: الخبز للجميع وتسقط الحرب. وفي الشهر التالي، خرجت مظاهرات تطالب بسقوط النظام القيصري، والتي انضم إليها جنود الجيش الذين يعانون من الحرب، حيث كانت في بدايتها ثورة ليبرالية. وفي 28 شباط/ فبراير سقطت بيتروغراد، العاصمة، في يد الثوار، وتشكلت في نفس العام (آذار/ مارس 1917م) الحكومة البرجوازية المؤقتة بموجب اتفاق بين اللجنة المؤقتة لدوما الدولة والزعماء الاشتراكيين الثوريين والمناشفة في اللجنة التنفيذية لسوفياتات العمال والجنود في بتروغراد، واشترك في تلك الحكومة وزراء ممثلون عن القيصر والبرجوازية والبرجوازية الصغيرة والملاكين العقاريين والإقطاعيين. ولكن حينما رأى البلاشفة أن الحكومة الجديدة التي تم تشكيلها تريد إعادة السلطة للنظام القيصري، قامت ثورة جديد في نفس العام (في تشرين الأول/ أكتوبر)، إنما بخطاب تجلى فيه الإبداع الثوري في صوه الحقيقية، حينما تبنوا خطابا جديدا يلبي طموحات فئات كبيرة من الشعب، وهم العمال والفلاحيون الذين يمثلون 65 في المئة، بالإضافة إلى جزء من الحكومة القائمة، وهي السوفييتية العمالية. وكان خطابهم يتلخص في "الأرض للفلاح والسلطة للسوفييت". ونحن لسنا بصدد تقييم الثورة البلشفية، ولكن نأخذ منه نموذج من الإبداع الثوري حينما حاولات الثورة المضادة السيطرة من جديد.

وبالتالي، فإن الثورات الناجحة هي التي يتبني منظريها استراتيجيات وتكتيكات إبداعية، وألا يكونوا مقلدين لثورات سابقة. فالثورة تتأثر بعوامل كثير عوامل كثيرة تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. ومن هذه العوامل السلطة والشعب والأيدلوجيا والحياة الاجتماعية والحضارية، لذلك وجب على جميع الثورات أن يتضح لديها مفهوم الإبداع الثوري.