كتب

الهند.. اغتيال غاندي وجدلية الديني والقومي والسياسي

مؤلف الكتاب يرى في الهند نموذجا لفهم تأثير القومية الدينية في القيم الديمقراطية (الأناضول)

الكتاب: غاندي وقضايا العرب والمسلمين
الكاتب: عبد النبي الشعلة 
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى آب/أغسطس 2018،
(259 صفحة من القطع الكبير).

في الجزء الثالث والأخير من عرضه لكتاب الوزير البحريني السابق عبد النبي الشعله بعنوان "غاندي وقضايا العرب والمسلمين"، يسلط الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، الضوء على وفاة مهاتما غاندي، والتحولات التي تبعت ذلك بدءا باستقلال باكستان وتفاعلات العلاقات بين الهندوس والمسلمين، والتتضييق الذي يعانيه المسلمون كأحد أهم الأقليات الدينة في الهند

كحال أبطال الملاحم الإغريقية، ومثل كل العظماء في التاريخ، أو مثل الغالبية الكبرى منهم على أقل تقدير، فقد كانت نهاية المهاتما غاندي نهاية تراجيدية مأساوية، وهي نهاية تضفي دائماً على ضحاياها هالة من الإكبار والإجلال والتبجيل، أكثر مما تدر عليهم من المواساة ومن مشاعر العطف والشفقة. 

 

إقرأ أيضا: غاندي كان مسؤولا عن تديين السياسة وتسييس الدين في الهند

كانت مواقف غاندي المساندة للحقوق المشروعة للأقلية المسلمة في الهند قد أغضبت الفئات الهندوسية المتعصبة والمتطرفة، وكان آخر مثال على ذلك إصرار غاندي، كما رأينا، وتهديده بالإضراب عن الطعام، ومطالبته الحكومة الهندية بالتسديد الفوري لحصة باكستان من الأصول العامة التي كانت تملكها الهند الموحدة، وعليه فقد تم التسديد الكامل في شهر كانون الثاني (يناير) 1948م، وبعدها بأيام اجتمعت إرادة الشرّ لدى مجموعة من المتعصبين الهندوس على التخلص من غاندي واغتياله، ولتنفيذ هذه المهمة اختاروا من بينهم شخصاً اسمه ناتورام غودسه Nathuram Godse الذي كان يعتقد بأن غاندي كان يؤيد ويساند المسلمين على حساب الهندوس ومصالحهم. لقد شاءت الإرادة الإلهية ألا يكون قاتل غاندي مسلماً، وإلا لاشتعلت حرب أهلية أكثر ضراوة وقسوة بين الهندوس والمسلمين.

ميلاد باكستان

في البداية كانت باكستان مفهوماً. فالبلد ولد من حلم شاعر هندي، محمد إقبال. وقد رأت باكستان النور في آب (أغسطس) 1947، بوساطة الأب المؤسس محمد علي جناح في فترة التقسيم الدامي لإمبراطورية الهند. ومن دون شك، هل يمكن رؤية في الأصول المؤلمة لهذا البلد، صعوبته الأنطولوجية لبناء هويته؟ وأبعد من علة وجودها الجلية كأمة تضم مسلمي الهند، فإنه في الواقع بنيت باكستان بالنسبة إلى جارتها وشقيقتها اللدودة الهند. إذ إنها بدلالة هذه الأخيرة يتحقق الوجود المعين لباكستان، لا سيما أن الهند ما زالت إلى حد الآن لم تهضم عملية تقسيمها، وتعتبر وجود باكستان اصنطاعياً، وأن شعوبها المتكونة من الباشتون، والبنجابيين، والسنديين، والبلوتش، والمهاجرين (من المسلمين الهنود الذين جاءوا من الهند بعد الاستقلال)، لم يجتمعوا كلياً وأبداً حول مشروع مشترك أبعد من رباط الإسلام.

وقد طبع التاريخ الداخلي لهذه الأمة الفتية بالعديد من القفزات السياسية الفجائية، فكان اغتيال رئيس الحكومة ليافت علي خان في عام 1951، وحصول أول انقلاب عسكري من قبل الجنرال يعقوب خان في عام 1958، وإعلان الأحكام الفرعية من جانب خليفته الجنرال يحيى خان. وفي بداية السبعينيات انفصلت بنغلاديش (باكستان الشرقية) بعد حملة واسعة من القمع ضد الاستقلاليين. وصعد بعدها نجم ذو الفقار علي بوتو في فضاء السياسة الباكستانية، الذي قام بالإصلاح الزراعي، وأطلق العنان للبرنامج النووي الباكستاني، غير أن نهايته كانت الإعدام بعد سنتين من عودة الجيش من جديد إلى السلطة في الانقلاب الذي قاده الجنرال ضياء الحق في تموز (يوليو) 1977. 

ولأول مرة في تاريخها وضع ضياء الحق باكستان في مصاف الأمم الحديثة، وقادها على طريق الأسلمة الراديكالية، وانتهت مرحلته بموته في حادث طائرة غامض إلى حد الآن في آب (أغسطس) 1988. 

وبموت ضياء الحق طوت باكستان صفحة الديكتاتورية العسكرية، وعادت الديمقراطية من جديد على يد بنازير بوتو التي تناوبت على رئاسة الحكومة مرتين مع خصمها اللدود نواز شريف. وبدلاً من أن يرسي الحكم المدني أسس التنمية الحقيقي، عمقت الديموقراطية الأزمة السياسية في البلد يوماً بعد يوم، وانتشر الفساد والرشوة في قمة هرم السلطة، وازداد الصراع الطائفي حدة بين الاقلية الشيعية والمسلمين السنة، وانعدم الأمن في كبريات المدن الباكستانية.

صراع الهوية في الهند

يُعتبر الدين ركيزة أساسيّة ومُهمّة في الجمهورية الهندية التي تتمتع بتنوع وتعايش ديني، حيث يُؤدي كل أتباع المذاهب والديانات شعائرهم الديانية بكل حُرية، وبالرغم من تعدد الأديان الموجودة في الهند إلا أنّ الدستور الهندي نصّ على أنها جمهوريّة علمانيّة. أما نسب السكّان تبعاً لدياناتهم فهي مُوضّحة أدناه وذلك لعام 2016: الهندوسيّة: 79.8% ،الإسلام: 14.2% المسيحيّة: 2.3%  ،السيخيّة: 1.7% ،ديانات أُخرى: 2%.

ويبلغ عدد سكان الهند 1340 مليون نسمة، منهم حوالي 200 مليون مسلم. ويبلغ عدد سكان باكستان حوالي 193 مليون نسمة، أما سكان بنغلاديش فيصل عددهم إلى 162 مليون نسمة. فإذا قمنا بعملية حسابية لتعداد السكان المسلمين في شبه القارة الهندية، فإنّ عددهم يصل إلى حوالي 555 مليون نسمة، أي تقريبا أقل بقليل من نصف عدد سكان الهند الحالي، ما يؤكد التحليل الذي يقول إن السكان المسلمين لو ظلوا متوحدين في الدولة الهندية منذ استقلالها وليومنا هذا، لكان تأثيرهم في السياسة الهندية أكبر، من انقسامهم إلى ثلاث دول. 

 

إقرأ أيضا: الهندوس والمسلمون وغاندي في مواجهة احتلال بريطانيا للهند

في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ولاسيما مع وصول حزب الشعب الهندي اليميني الهندوسي المتطرف (حزب بهاراتيا جناتا) تأججت الطفرة القومية الهندوسية والعنصرية ضد كل من ليس هندوسيا. وكانت سلطة اليمين الهندوسي تتعاظم، وتشكل تهديداً للممارسات الدستورية التي اكتسبتها الهند بشق النفس، والتي تتمثل في الديمقراطية، والتسامح، والتعددية الدينية. وقد سعى اليمين الهندوسي، بقيادته السياسية التي يمثلها حزب بهاراتيا جناتا، إلى إخضاع الجماعات الدينية الأخرى، وكان يوجه سهامه بوجه خاص نحو المسلمين، الذين يعتبرهم شياطين يجب تطهير البلاد منهم.

لقد شكل حزب بهاراتيا جناتا برئاسة أتال بيهاري فاجباي خطرا على "الديمقراطية العلمانية الهندية" والعدالة الاجتماعية. ولحزب الشعب هذا مفهومه الخاص للهند ولهويتها وتتحدد سياسته في الأساس انطلاقا من أفكار "راشتريا سوايا مسيواك سانغ" أو"الهندوتفا".

ومنذ تأسيسها عام 1925 اتبعت "الهندوتفا" (أو جمعية المتطوعين الوطنيين، بوصفها  الجناح المؤسس لعائلة من التنظيمات السياسية والثقافية المكرسة للقضية الهندوسية) في مشروعها للهيمنة مسارين: الديني المحمّل المعاني السياسية القومية، والسياسي المفعم بالقدسية. وتستغل "الهندوتفا" الرموز المتعددة المعنى وطواعية الممارسة الدينية الهندوسية لكنها تتعامل في الواقع مع الدين كمعيار للنقاوة العرقية. وانطلاقا من مفهومها للقومية الهندوسية تعارض (جمعية المتطوعين الوطنيين) فكرة الهند العلمانية. 

 

إذا كنا نريد حقاً أن نفهم تأثير القومية الدينية في القيم الديمقراطية، فإن الهند تشكل أنموذجاً يثير القلق العميق، ومن دونه يظل أي فهم للظاهرة الأشد عمومية ناقصاً على نحو خطير


وتجدر الإشارة هنا أن مفهومي "العلمنة" و"الطائفية" لهما هنا معنى مختلف عن معناهما في الغرب. فهنا "العلمنة" لا تدل على الفصل بين الحيزين العام والديني بقدر ما تعني التعدد والتكاثر الاجتماعي ـ الثقافي. ويعكس هذا التكاثر في صورة جيدة وقائع البلاد السوسيولوجية. وعلى العكس فإن "الطائفية" تشير إلى جماعة دينية متخيلة كأمة قائمة على العرق. وفي بلد متعدد الطوائف مثل الهند، إذ يشكل الهندوس نسبة 80% من السكان، ويشكل المسلمون الهنود نحو 14% من السكان، ولا تربطهم أي علاقة بالراديكالية الإسلامية الدولية، أو بالمنظمات الإرهابية، ولا يقيمون سوى روابط سياسية أو تنظيمية قليلة، حتى مع باكستان.

كما أن الهند هي ثالثة كبريات الدول في العالم من حيث عدد السكان المسلمين فيها (بعد اندونيسيا وباكستان)، حيث تضم من المسلمين أكثر من بنجلاديش، ونحو عدد سكان باكستان تقريباً. والمسلمون في الهند بوجه عام، أقلية فقيرة كادحة، ظلت منذ قرون تعيش جنباً إلى جنب مع الهندوس، وهي تشارك اليوم في الحكم الذاتي الديمقراطي على جميع المستويات. وقد أظهرت دراسة حديثة أنها تؤيد وتساند تعليم الإناث على نحو أشد مما يؤيده الهندوس. وليس للأصولية الإسلامية سطوة في الهند، على الرغم من التمييز، بل والاضطهاد الذي يمارس ضد المسلمين. ويشكل إشراك المسلمين في شغل مناصب بارزة في الحكومة الجديدة، علامة تبعث الأمل في مستقبل أفضل.

 

إقرأ أيضا: كشمير.. ثلاث دول وثلات حروب وإقليم مقسم (إنفوغرافيك)

وبالرغم من تشكيلهم ثاني أكبر أقلية دينية في الهند، فإن المسيحيين لا يمثلون سوى نسبة 5.2% من السكان. والمسيحية ليست حديثة العهد في الهند. فالكنيسة السريانية وهي الأقدم تأسست على يد القديس توما على شاطىء مالابار في نحو العام 45 بعد الميلاد. أما صعود الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلم يبدأ فعلا إلا بعد وصول فاسكود دي غاما إلى أبواب كالكوتا عام 1498.

من كبرى الدول الديمقراطية

في غمرة تركيز الأمريكيين على الإرهاب، والعراق والشرق الأوسط، كانت الديمقراطية تخضع للحصار في مكان آخر من العالم، فقد كانت الهند تمر بأزمة، وهي كبرى الدول الديمقراطية من حيث عدد السكان، والتي يحمي دستورها حقوق الإنسان على نحو أشمل حتى مما هي عليه الحال في الولايات المتحدة. فحتى ربيع سنة 2004 كانت حكومة الهند البرلمانية، تخضع بصورة متزايدة للمتطرفين الهندوس اليمينيين، الذين كانوا يغفرون، بل ويدعمون بنشاط في بعض الحالات، العنف ضد الأقليات عامة، وضد الأقلية الإسلامية بخاصة، ويسعى العديد منهم إلى إحداث تغييرات أساسية في ديمقراطية الهند الجماعية.

فما يجري في الهند يشكّل تهديداً خطيراً لمستقبل الديمقراطية في العالم. وأن كون ذلك يحتاج إلى جهد لإدخاله في وعي الأمريكيين، يشكل دليلاً على الكيفية التي صرف بها الإرهاب وحرب العراق أنظار الأمريكيين عن الأحداث والقضايا ذات الأهمية الجوهرية. وإذا كنا نريد حقاً أن نفهم تأثير القومية الدينية في القيم الديمقراطية، فإن الهند تشكل أنموذجاً يثير القلق العميق، ومن دونه يظل أي فهم للظاهرة الأشد عمومية ناقصاً على نحو خطير. كما أنه يوفر مثالاً على الكيفية التي تستطيع بها الديمقراطية أن تنجو من عدوان التطرف الديني، وهو مثال يمكن أن يكون درساً تتعلمه جميع الديمقراطيات الحديثة.

فالمشكلة الأعمق التي تكشفها أحداث كوجارات سنة 2002، هي مشكلة العنف الذي يُرتكب بعون وتحريض من أعلى مستويات الحكومة، وجهات تطبيق القانون، والذي يشكل إعلاناً فعلياً لمواطني الأقلية أنهم غير متساوين أمام القانون، وأن حياتهم لا تستحق الحماية من قبل القانون ودوائر الشرطة. وفي هذه الأثناء كانت الحكومة تبدي لامبالاة جديرة باللوم، قائلة إن أعمال الشغب الدينية لا مناص منها في المناطق التي يعيش فيها المسلمون جنباً إلى جنب مع الهندوس، وإن المسلمين المثيرين للمتاعب هم الذين يتحملون مسؤولية ذلك. وكان سلوك كبار الساسة يوحي بأن الحكومة سوف تعامل مواطني الدولة بطريقة غير متساوية: حيث سيتلقى بعضهم الحماية التامة من قبل القانون، أما بعضهم الآخر فسوف يُحرم منها.

توفر أحداث كوجارات مثالاً واضحاً على الأمور القبيحة التي يمكن أن تحدث عندما يبني حزب سياسي رئيسي أهدافه ومبادئه على أسس قومية دينية متضافرة مع أفكار التجانس والنقاء العرقي. فالمرء بحاجة إلى فهم هذا النموذج لكي يبدأ بتكوين إدراك ملائم لمشكلة القومية الدينية في عالم اليوم، ولكن أحداث كوجارات، تبين لنا شيئاً آخر، وهو مرونة الديمقراطية القائمة على أساس المشاركة في الحكم، ومقدرتها على استعادة وضعها السليم، ومقدرة المواطنين المدركين للأمور على الانقلاب ضد القومية الدينية، وعلى مؤازرة المساواة والحكم الجماعي.