مقالات مختارة

«الدرون» تدشن عصر حروب من دون جيوش!

1300x600

في دراسة تاريخية نشرتها الكاتبة ستيفاني زاشراك ذكرت أن الرسام العالمي ليوناردو دافينتشي كتب مخطوطة شهيرة عن العصافير. وتوقع هذا العبقري أن الإنسان سينجح في المستقبل في بلوغ هذا المدى المرتفع.

وتقول ستيفاني في دراستها إن دافينتشي مبدع لوحة «موناليزا» كان مهتماً أيضاً برسم مسودة «اسكتشات» تمثل الطبيعة من فوق قمة جبل مرتفع، كما يراها الطير أو كما تخيلها هو عن الإنسان القادر على الطيران. من هنا ذكرت الكاتبة أن إيحاءات الرسام العظيم كانت تمثل رؤياه لقدرة الإنسان على الطيران تماماً مثل الطيور.

لكن دافينتشي لم يتخيل أن اختراعات البشر ستصل بهم إلى صناعة طائرة موجهة بسبب خلو عهده (1452-1519) من ابتكار الإشارات اللاسلكية. وبفضل ذلك الابتكار وُلِدت «الدرون»، الطائرة الموجهة بواسطة هذه الإشارات.

والملفت حقاً أن يصبح اقتناء هذه الطائرة الصغيرة المسيّرة من بعيد هدفاً للعسكريين وللتجار، ولهواة هذه اللعبة المكلفة. ويدل على ذلك آخر إحصاء نشرته الصحف الأميركية وفيه تقول: إن الهواة سجلوا في دائرة الاتصالات ملكية (920 ألف درون)، في حين سجل التجار ملكية (195 ألف درون). هذا بالطبع إلى جانب عدد ضخم يستخدمه العسكريون لتنفيذ عمليات اغتيال ضد آلاف الإرهابيين المنتشرين في كل مكان تقريباً.

لهذا السبب وسواه، وضعت وزارة الاتصالات الأميركية قوانين مشددة تتعلق بملكية هذه الطائرة، وأسباب اقتنائها وحدود استعمالها. ومن أجل سلامة أجواء المطارات في المدن، منعت الدولة تحليق «الدرون» فوق المدارج المخصصة للإقلاع والهبوط. ولم يكن هذا الحظر وقفاً على الولايات المتحدة، وإنما هو قانون معمول به في جميع مطارات العالم. ولقد عانت إدارة مطار «غاتويك»، منذ أسبوعين تقريباً، أزمة إرباك استمرت 36 ساعة، قبل موسم الأعياد بقليل. والسبب أن برج المراقبة في هذا المطار المزدحم بالمسافرين ضبط جسماً غريباً كان يحلق فوق المطار، الأمر الذي يشكل خطراً على عمليات هبوط الطائرات التجارية وانطلاقها. خصوصاً أن «الدرون» كانت تحلق على علو كيلومتر واحد في أجواء المطار. وكان من نتيجة هذا الاختراق المفاجئ إلغاء ألف رحلة طيران، ومنع سفر 140 ألف مواطن أجبرتهم الفوضى على افتراش الأرض.

وكان من الطبيعي أن تطلب إدارة مطار «غاتويك» معونة الولايات المتحدة وخبرتها في حل هذا الإشكال المكلف. ولما نصحت وزارة الاتصالات الأميركية بضرورة استخدام جهاز يُعرف باسم «قبة درون»، القادرة على تدمير الطائرة، اعترضت وزارة الداخلية البريطانية على هذا التدبير لأنها كانت مهتمة باكتشاف صاحب الطائرة، والمكان السري الذي يوجّه منه «الدرون»... وما إذا كان وراء هذا العمل أهداف إرهابية مؤذية.

ومن أجل هذه الغاية أعلنت الشرطة عن جائزة بمبلغ خمسين ألف جنيه إسترليني لمن يدل إلى مكمن الفاعل. وبعد اتهام شخصين هما بول غيت وألين كيرك، وإخضاعهما لعملية استجواب طويلة، أطلقتهما الشرطة بعد الاعتذار، لعدم وجود أدلة تدينهما.

وفي نهاية الأمر، أعلنت قيادة الجيش البريطاني أنها طبقت التكنولوجيا الإسرائيلية الخاصة بتعطيل حركة طيران «الدرون.» والثابت أن خبراء الجيش الإسرائيلي حرصوا على ابتكار أجهزة معطلة منذ أعلن تنظيم «داعش» عن نيته ضرب مفاعل ديمونا بواسطة «الدرون.» أو منذ أدخل «حزب الله» هذه الطائرة ضمن عملياته في دعم نظام بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية. كذلك استخدمت «حماس» هذه الطائرة بغرض القيام بعمليات استطلاع ضد جيش الدفاع الإسرائيلي. وقد اعترف الناطق الرسمي باسم تنظيم «داعش» أن مقاتليه استخدموا هذه الطائرة في العراق وسورية بغرض التجسس والتشويش على طائرات التحالف الدولي.

ويرى العسكريون أن أهمية عمل هذه الطائرة تكمن في قدرتها على بلوغ أهدافها عن بعد مئات الكيلومترات. والمثل على ذلك أن البوارج الأميركية التي تجوب بحر العرب قبالة الساحل العُماني، كانت توجه ضرباتها إلى الإرهابيين في قندهار أفغانستان أو بيشاور باكستان.

ومن الوقائع التي دلت على خطورة «الدرون» يوم استُعمِلت لاغتيال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. وكان ذلك أثناء إلقاء خطاب أمام حشد عسكري عندما فوجئ هو وزوجته وأعضاء حكومته بانفجار طائرتين دون طيار. وتردد لاحقاً أنها محاولة فاشلة لاغتياله. لكن فشلها لم يمنع المسؤولين عن أمن الرئيس من إعادة النظر في مختلف الأساليب الكلاسيكية المعتمدة.

وبعد إعلان فشل تلك المحاولة، تنبهت وكالات الاستخبارات وأجهزة الأمن في كل دول العالم إلى ظهور تهديد جديد تمثله «الدرون الانتحارية.» أي الطائرة المعدة للانفجار الكامل. وكتب بعد هذه الحادثة أكاديميون وخبراء أمن أن حراس الرؤساء تعلموا درساً قاسياً من محاولة اغتيال مادورو، يتمثل في التغيير الجذري لطبيعة خطط تأمين الحماية الشخصية لزعماء الدول خلال المناسبات الرسمية أو الاحتفالات الشعبية.

صحيح أن الرئيس أنور السادات لم يستطع حماية نفسه من رصاص خالد الإسلامبولي في زمن لم تكن «الدرون» قد وُلِدت... لكن الصحيح أيضاً أن مطلق «الدرون» الانتحارية ضد مادورو بقي مجهولاً مع تساؤلات جمّة: هل هي المعارضة، أم الولايات المتحدة، أم دولة جارة لفنزويلا؟

حسب التقاليد المتبعة لعمليات الحماية فهي عادة تقتصر على الأمن المباشر لجسد الشخص، بالإضافة إلى تأمين الحماية عن بُعد، عبر نشر القنّاصة فوق أسطح البنايات المجاورة لقصر الزعيم. وقد تطور هذا الأسلوب في عهود ديكتاتوريين من أمثال فيدال كاسترو وصدام حسين ومعمر القذافي بحيث كانت تُغلق الطرق ويتم نشر قوات عسكرية محيطة بقصر الرئاسة، مع تشغيل أجهزة التشويش على الإشارات وشبكة الانترنت. لكن هذه الموانع لم تحمِ رفيق الحريري من الاغتيال!

الرئيس مادورو أضاف إلى خطط حمايته الشخصية منظومة حماية مؤلفة من مروحيات مسلحة وطائرات تابعة للقوات الجوية. وربما يحذو حذوه في المستقبل كل الرؤساء المعرضين للاغتيال بواسطة «الدورن الكاميكازي.» وقد كسب هذا اللقب من فرقة الكاميكاز اليابانية التي كان طياروها ينقضون بطائراتهم الحربية على حاملات الطائرات الأميركية في المحيط الهادئ، ويفجرون أنفسهم فيها.

بقي السؤال المتعلق بالمهمات التي تقوم بها «الدرون»، وهل تقتصر على ارتكاب الاغتيالات فقط؟

يعترف أحد أطباء رواندا بأنه أجرى اتصالاً هاتفياً بالمستشفى المركزي في العاصمة، وطلب دواء مستعجلاً لصبية تعاني من ألم عضال. وكان الجواب مخيباً لآماله، لأن الدواء لن يصله بالسيارة قبل ثلاث ساعات.

وهو يؤكد أنه كرر الطلب من مركز «الدرون» التجاري الذي أبلغه أن الدواء سيصله خلال ست دقائق. وبالفعل، شوهدت بعد ست دقائق طائرة «درون» تحوم فوق عيادته وترمي له الدواء بواسطة مظلة ورقية.

حدث ذلك في 21 كانون الأول (ديسمبر) سنة 2016. وبذلك تكون تلك العملية السريعة أول خدمة إنسانية تقوم بها هذه الطائرة بتوجيه إشارات لاسلكية بعث بها مالكها من منزله.

على اثر تلك الحادثة التي جرت في أفريقيا، وافقت وزارة الاتصالات الأميركية على استخدام هذه الطائرة للأمور المستعجلة. وقد أثبتت جدواها عقب مرور الإعصار «ماريا» فوق بورتو ريكو خلال شهر أيلول (سبتمبر) 2017. ذلك أنها كانت تؤمن الضروريات كالغذاء والدواء والماء، لمئات المحتاجين.

يقول كريس بوكوك، من كبار ضباط حلف الأطلسي، إن الجيل المعدّل من طائرات «الدرون» سيكون جزءاً مكملاً لأي برنامج مسلح تقوم به الدول. والسبب أن تطوره اتجه نحو تقليل عدد الجنود، مع زيادة قدرات الطائرات الموجهة على حمل أكبر عدد من الصواريخ.

إضافة إلى كل هذه المعطيات، فإن شركة «أمازون» وقعت اتفاقاً مع إحدى شركات «الدرون» على تحقيق خدمات مستعجلة لزبائنها. كذلك تدرس وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) الطريقة التي تعمل بها هذه الطائرة بغرض الاستفادة من تركيبتها التكنولوجية.

بقي السؤال الأخير المتعلق بطبيعة عمل «الدرون»، وخصائصها الفريدة. والجواب كما يقول أحد مخترعيها إن زمام المبادرة موجود على الأرض يحركه طيار مدرب على توجيه تلك الآلة القاتلة. ويشير سجل الاختراعات إلى سلسلة علماء أميركيين وبريطانيين، باشروا منذ سنة 1935 في تطوير موجات الراديو إلى إشارات لاسلكية. ثم جاء من بعدهم أبراهام كارم، اليهودي العراقي المولود في بغداد سنة 1937. وقد هاجر إلى إسرائيل بصحبة والده وأربعة أشقاء. وبرزت اختراعاته في عالم الطيران، الأمر الذي انتهى به إلى بناء أول طائرة «درون» تعمل بالإشارات اللاسلكية!

عن صحيفة الحياة اللندنية