قضايا وآراء

هل يلحق السودان قطار التطبيع!

1300x600

تتسم السياسة السودانية المعاصرة بقدر كبير من الكتمان والغموض، كما تمتاز بالجرأة غير المتوقعة في محطات فاصلة، ونظراً لمحدودية الخبراء في الشأن السياسي السوداني محلياً وإقليمياً ودولياً، وقلة الوارد من المعلومات الدقيقة في المصادر المفتوحة فإنك ترى الكثير من التحليلات تتجه نحو السطحية والإفتراضية والأحكام المسبقة.

 

مبعثها إسرائيلي


وفي مسألة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي فقد ثارت هذه القضية عدة مرات، آخرها تلك التي تتحدث عن المحطة القادمة لنتنياهو وأنها ستكون السودان، وأن الاتصالات قد نضجت، وأن علينا انتظار إعلان التوقيت فحسب!

ومن الملاحظ هنا أن مبعث هذه القضية تأتي غالباً من مصادر "إسرائيلية" التصنيع، وأحياناً تأتي استجابةً أو ردود أفعال لتصريحات فردية من مسؤولين سودانيين في مناصب وزارية أو دستورية تكون عادة من غير سياق سياسي.

ويلاحَظ غالباً أن ردود الأفعال الرسمية السودانية تأتي من مستويات حزبية ذات علاقة بالحكومة ولا تأتي من الخارجية السودانية أو دائرة الرئاسة، ودائماً ما تؤكد هذه الردود على موقف السودان الملتزم بالقضية الفلسطينية وفق الإجماع الرسمي العربي الذي جرى التأكيد عليه في المبادرة العربية بأن التطبيع هو في مقابل السلام الشامل، بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

وتترافق الحملة الإسرائيلية مع مشهد إنجاز سياسي تجلّى في زيارة الرئيس التشادي للكيان الإسرائيلي تتويجاً لاتصالات معلنة مع تشاد كان آخرها زيارة دوري غولد لتشاد في 2016، وقد أعطت الحملة الإنطباع بجاهزية السودان أيضاً للتطبيع المفاجِئ وغير المتوقع، مما أصاب الكثيرين من السودانيين وغيرهم بالحيرة!

من المفيد هنا أن نتحدث بشكل واضح أن قضية التطبيع في السودان ليست من الشواغل السياسية، فهي ليست في مربع الأولويات السياسية ولا الاهتمامات، في الوقت الراهن على الأقل، وسبب ذلك يعود إلى أن ملف التطبيع ليس على أجندة الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه القضية ليست من القضايا الضاغطة على الحكومة السودانية؛ وسبب آخر يعود إلى تقدير سياسي داخليّ يرى أن الحديث في التطبيع أو التورط فيه يعني إضافة المزيد من الأزمات إلى قائمة الأزمات الكبيرة السياسية والإقتصادية والأمنية التي يعاني منها السودان، وأن التطبيع سيكون مدخلاً جديداً للاشتراطات السياسية والتدخلات التي تراعي المتطلبات الأمنية الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي، والتي ستؤدي إلى حراكٍ استراتيجي مقابِل من الجهات المتضررة ولاسيما مصر، مما سيعني أيضاً مزيداً من التعقيدات في الحسابات التكتيكية والاستراتيجية السودانية؛ كما أن ثمة قناعة داخلية أن التطبيع ليس مدخلاً لحل المشكلات المستعصية في السودان، وأن تجارب الدول المطبّعة ليست إيجابية في هذا المجال، كما لا يمكن إغفال السلوك العدواني الإسرائيلي تجاه السودان منذ الاستقلال.

وليس لديّ معلومات محددة بخصوص أي اتصالات رسمية سودانية "إسرائيلية" سرية رغم أن بعض الخبراء لا يستبعدون حدوث اتصالات في مستويات دبلوماسية دنيا في بعض الأقطار، أو عبر سماسرة سياسيين عرب وأجانب يقدمون نصائح بالوكالة.

وبما أن هذه القضية ليست ملحّة لدى الجانب السوداني فإن صاحب المصلحة في إثارة هذه القضية مراراً هو الكيان الإسرائيلي لأسباب عدة: منها حاجته إلى زيادة المنسوب العددي للدول التي تنفتح عليه في هذه الظروف الصعبة مما يعطي الشعور بالأمان الاستراتيجي للمجتمع الإسرائيلي الذي يتغذَّى على الخوف الدائم لحماية نفسه، ويحتاج هذا المجتمع المسكون بالخوف للتهدئة بحقن من هذا النوع لاسيما من دولة أساسية تقع في منطقة الحزام الاستراتيجي حول المحيط الخطر وفق التعبير السياسي "الإسرائيلي".

اقرأ أيضا: هآرتس: إسرائيل تسعى لترتيب علاقتها مع السودان لهذا السبب

وفي الجانب السياسي فإن بقاء السودان بعيداً عن دائرة الاحتواء "الإسرائيلي" يثير قلقاً كبيراً لدى صنّاع الاستراتيجية الإسرائيلية، فالسودان محاط بدول معروفة بتطبيعها الكامل مع الكيان الإسرائيلي، مصر وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإرتريا، والاستثناء الوحيد هو ليبيا التي تعاني من أزمة خانقة ؛ فإذا كانت كل هذه المنظومة داخلة في دائرة الاحتواء فليس مقبولاً من السودان أن يبقى خارج هذه الدائرة.

إن معنى هذا أن السودان "الغامض والجريء" يمكن أن يشكّل مفاجأة استراتيجية في حال قيام معركة استراتيجية ضد المهددات الكبرى التي تمسّ الكيان الإسرائيلي التي يبدو أن هناك اتجاهاً لخوضها ضد إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية ضمن ترتيبات صفقة القرن الاستراتيجية التي تأجّل الإعلان عنها مراراً ؛ ولأن السودان لها تجارب تاريخية سابقة في إسناد المقاومة الفلسطينية، ولأن حكومتها ما تزال محسوبة على الدول ذات المرجعية الفكرية الإسلامية، فإنه لا يمكن الركون للموقف السوداني الصامت أو الموقف الذي لا يظهر الاكتراث بما حوله.

وإذا كان الكيان الإسرائيلي واثقاً إلى هذه الدرجة من إمكانية اختراق الجبهة السودانية فإن الإعلان المسبق عن هذا الاختراق يعني في حقيقة الأمر أنه فشل فيه، لأن أي إعلان من هذا النوع يشكّل استفزازاً سياسياً وشعبياً كبيراً وسيؤدي إلى حراك القوى المناهضة للتطبيع داخل السودان وخارجه، والتي ستعمل بقوة على منع هذا الأمر، وسيؤدي إلى إحراج الحكومة السودانية التي تتعرض لأزمات داخلية ما تزال تنحشر في عنق الزجاجة الضيقة ولم تستطع الخروج منها بعدُ.

ويبدو لي أن الهدف التكتيكي لهذا الإعلان الإسرائيلي هو قطع الطريق على التطور البطيء في مسألة رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، والتي يمكن استثمار التصريحات وردود الأفعال الرسمية السودانية الصادرة عنها في هذه المسألة من جانب مؤسسات اللوبي الصهيوني الأمريكية في تعطيل مسار التطور الذي تبني عليه حكومة السودان آمالاً عريضة.

اقرأ أيضا: السودان: مقاربات جديدة بعد غزل إسرائيل وزيارة الرئيس التشادي