قضايا وآراء

المرسوم 16 للأوقاف السورية: قراءة متأنية في الدلالات والمخاطر

1300x600

لم يشهد مرسومٌ رئاسيّ منذ امتلاك بشّار الأسد السّلطة؛ اعتراضات علنيّة فيها تناقضاتٌ صارخةٌ بينَ المتجادلين، كما شهدها هذا المرسوم. فمنذ إصدار بشّار الأسد المرسوم رقم 16 المتعلّق بوزارة الأوقاف، ثارت معارك بين شرائح عدّة في المجتمع السّوري بين رافضٍ للمرسوم، معتبرا إيّاه انقلابا ناعما على علمانيّة الدولة، ويطلق يد الإسلاميين ليحوّلوا وجه سوريا إلى أسود مظلم ومرتع للتكفيريين، وبينَ رافضٍ له لأنّه يقيّد العمل الدّينيّ ويزيد الضّغوط عليه. ومن الطّبيعيّ أن يكون هناك فريقٌ ثالثٌ مدافعٌ عن المرسوم ومشيدٌ بالقيادة الحكيمة الأوسع نظرا من الرّعاع والدّهماء المعترضين.

ترتيباتٌ إداريّةٌ أم ترتيباتُ ما بعدَ الحرب؟!

رجعتُ إلى المرسومِ، فقرأتُ موادّه الـ115 وصفحاته السّبع والثّلاثين كاملة قراءة فاحصة، لأجدَ أنَّ هذا المرسوم هو من أخطر المراسيم التي تؤسّسُ لمرحلةٍ قادمةٍ قاتمةٍ في مستقبل سوريا. فهو وإن ظهر على شكلِ مرسوم لتنظيم عمل وزارة الأوقاف، ووضعِ الترتيبات الإداريّة للعمل الدّيني في سوريا - كما يحرص النّظام أن يبيّن ويروّج - إلَّا أنّ أمرين اثنين يحتّمان علينا التوقّف مليّا مع دلالاته ومخاطره؛ الأوّل: هو السّياق الزمانيّ لظهوره؛ فهو يصدر في مرحلةٍ ترتيبات ما بعد الحربِ، وسير الأمور نحو الاستقرار السّياسي والعسكريّ لصالح النّظام، وإطلاق اليد الإيرانيّة في كلّ ما له علاقة بالبعد الديني؛ وذلك على عين المحتلّ الرّوسي المهيمن هيمنة تامة.. والثّاني: طبيعة موادّه وقراراته التي تمثّل نقطةَ تحوّل حقيقيّة في عمل وزارة الأوقاف في مرحلة ما بعد الحرب.

أين تكمن المخاطر؟!

إنَّ جميعَ أدبيّات النّظام السّوريّ منذ انقلاب البّعث الحاكم عام 1963م كانت تنادي بفصل الدّين عن الدّولة تحت ستار العلمانيّة، وكانت وزارة الأوقاف التي تمثّل الدّولة تدير النّشاط الدّيني الذي تمارسه مؤسسات رسميّة تابعة إداريّا لوزارة الأوقاف، كما أنَّ هناك مؤسسات غير رسميّةٍ ترعاها وزارة الأوقاف دون تبعيّة إداريّة، وهي الجماعات المسجديّة والعلميّة والدّعويّة المتنوّعة، ممّا أتاح لها هامشا من حرّيّة التّحرّك الدّعوي والمجتمعي والخيري أيضا. ولكنّ هذا المرسوم ينتقلُ إلى مرحلةٍ قانونيّةٍ جديدةٍ تعلنُ بكلّ وضوحٍ لا لبسَ فيه أنه لا فصلَ للدّين عن الدّولة بعدَ الآن، بل سيكون الدّين من اللّحظة بكلّ تفاصيله ومجالاته ومؤسّساته ومشايخه وعلمائه وجماعاتهم، وما يتفرّع عنها من مؤسّساتٍ مدنيّة أو مجتمعيّة أو خيريّة؛ خاضعا خضوعا مطلقا للدّولة، فنحنُ أمام تحويل كلّ نشاطٍ دينيّ في سوريا ليكون جزءا من المؤسسّة الدينيّة الرّسميّة بحكم القانون.

المرسوم يعني القضاء على "الإسلام غير الرّسمي"، من خلال العمل على إنهاء التّأثير الحقيقيّ للجماعات ‏المسجديّة والدّعويّة التي كان لها دور كبير في النّهضة الشّرعيّة في سوريا، ومَن يعرف ما ‏الذي تمثّله هذه الجماعات في الواقع السّوريّ يدرك خطورة هذا المرسوم ومآلاته.‏

المرسوم يكبّل حريّة التّحرّك عند العلماء، ويقيّد حركة الدّعاة، ويسلبُ العاملين في المساجد خطابة وتدريسا أدنى هامش لحريّة الحركة في المجتمع أو داخل المسجد؛ وكلّ ذلكَ بسلطة القانون.

المرسوم يصادر كلّ الموارد التي يمكن أن تغذّي العمل الدعوي من مؤسسات خيريّة، بل وصل الأمر إلى التّنصيصِ على أموال الزّكاة واحتكار جبايتها وصرفها، وهذا تقنينٌ للاستبداد الدّيني في أبشع صوره.

كلّ هذا مع استباحة إيران للسّاحة الدّينيّة في سوريا يجعلنا نتخيّل شيئا من قتامة المشهد المستقبليّ إن لم يتم تدارك الأمر.

قراءة في بعض مواد المرسوم وأهمّ دلالاتها

وفي إطلالةٍ سريعةٍ على بعض موادّ الدّستور، يمكن أن نعلم حجم ما ينطوي عليه من حربٍ على الهويّة من خلال الإخضاع القانوني لكلّ شيءٍ متعلّق بالحالة الدّينيّة، ومن هذه الموادّ:


المادّة 2 الفقرة "ط": "اعتماد الفريق الدّيني الشّبابي التّطوّعي في الوزارة أداة لتمكين وتأهيل النّسق الشّاب من الأئمة والخطباء ومعلمات القرآن الكريم، ومنبرا للحوار بينهم وبين الجيل الذي يفوقهم عمرا من العلماء".

وهذه المادّة تمثّل السّياج الرّسميّ والاحتواء الممنهج لكلّ الشّباب الذين يبحثون عن متنفّسٍ لهم في الوسط الدّيني؛ فهم بعد الآن ملزمون بالخضوع لهذا الفريق، وكذلك فإنّ الجماعات النسائيّة مثل القبيسيّات وغيرهنّ ممّن تمّ تسميتهنّ "معلّمات القرآن الكريم" قد أصبحنَ جزءا من المؤسسّة الدّينيّة الرّسميّة.

الفقرة "ط" من المادّة نفسها: "تعزيزُ دور فريضة الزّكاة والعمل على تطوير سبل وآليّات تحصيلها وتوزيعها بما يحقّق مقاصد الأحكام الشّرعيّة لهذه الفريضة".

وهذا يعني أنّ الوزارة هي الموكّلة بجمع الزّكوات والصّدقات وتوزيعها وفق ما ترى، وهو سحب للبساط من تحت الجماعات التي كانت هذه الأموال أهمّ مواردها في عملها المجتمعيّ والدّعوي؛ لما تمتلكه من موثوقيّة عند كثيرٍ من أصحاب الأموال.

الفقرة "ر" من المادّة 2 أيضا: "تأسيس المبرّات ودور رعاية الأيتام والمستوصفات والمشافي والمنشآت والمؤسّسات والمراكز الخيريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تحقّق أهداف الوزارة..".

وهذا يعني هيمنة الوزارة على كلّ أنواع العمل الاجتماعيّ الذي تمارسه الجماعات المسجديّة والدّعويّة غير الرّسميّة؛ هذا العمل بكلّ مؤسسّاته المذكورة في المادّة هو من المنابر المهمّة لجماعات "الإسلام غير الرّسمي" في خدمة المجتمع المستهدف بدعوتها.

المادّة 6 الفقرة "أ": "يشكّل في الوزارة مجلس يسمّى "المجلس العلمي الفقهي الأعلى"، وفيها: "عشرون عالما من كبار العلماء في سوريا ممثلين عن المذاهب كافّة".

وتكمن الخطورة في هذا المجلس بأنّ أعضاءه من العلماء يختارهم الوزير، كما نصّت الفقرة "ب" من المادّة نفسها، وعبارةُ "من المذاهب كافّة" تدلّ بوضوحٍ على أنّ العلماء الشّيعة سيكونون جزءا أساسيّا من هذا المجلس، وفعليّا سيكونون هم أصحاب القرار الحقيقيّ؛ فهم ممثّلون لدولةٍ غدت لها السّيادة الفعليّة على المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة ووزيرها، بخلاف من سيجلبهم الوزير جلبا من "علماء السّنّة" بعد أن يختارهم على وفق هواه وقراره.

المادّة 12: "يشترط فيمَن يكلّفُ العمل الديني أن يكون مسلما متمتّعا بجنسيّة الجمهوريّة العربيّة السّوريّة أو من هو في حكمه، وللوزير أن يستثني من شرط الجنسيّة من يرى تكليفه لضرورات المصلحة العامّة".

واضحٌ جدّا أنَّ الاستثناء في هذه المادّة سيكون مختصّا بدعاة الشّيعة الذين جاؤوا من بلاد شتّى مع المليشيات، لا سيما من العراق، واستوطنوا في أنحاء سوريا، حيث سيكونون مطلَقي اليد ولهم حريّة التحرّك والعمل الدّيني والدّعوي، مقابل تقييدٍ تام لأهل البلاد الذين يرزحون تحت الظّلم.

المادّة 17 الفقرة "أ": "كلّ من يقوم من أرباب الشّعائر الدّينيّة بطرح قضايا من شأنها أن تؤدّي إلى زعزعة الوحدة الوطنيّة أو تحرّض على الطّائفيّة أو التفرقة المذهبيّة، أو ينشرُ أفكارا تكفيريّة متطرّفة كالأفكار الإخوانيّة أو الوهّابيّة أو يرتكب مخالفة جسيمة يقدّرها الوزيرتُرفَع عنه الصّفة الدّينيّة".

وهذه المادّة ستكون السّيف المسلط على رقاب العلماء والدّعاة للحدّ من فاعليتهم، فالتّهمة جاهزة عند ملاحظة أيّ تأثير؛ التّهمة هي الإخوان أو الوهابيّة. والمادّة تنصّ كذلك على أنّ الإخوان المسلمين الذين كانوا على الدّوام مكونا فكريّا واجتماعيّا وسياسيا أساسيا في المجتمع؛ هم خارج مفهوم الوحدة الوطنيّة، بل خارج دائرة الانتماء للوطن في عقيدة النّظام ووزارته.

المادّة 34 الفقرة "أ": "تُنهى حكما خدمة المُكلّف بالعمل الدّيني بإتمام المكلّف الخامسة والسّبعين من العمر بالنّسبة إلى أرباب الشّعائر الدّينيّة".

وهذه المادّة تمثّلُ ذروة الإسفاف الدكتاتوري، فهي تنصّ على إنهاء أي نشاط منبريّ او مسجديّ أو دعويّ لكلّ عالم أو داعيةٍ بلغ هذا السّن، وبهذا يتمّ تفريغ السّاحة الدّعويّة والعلميّة من الرموز الكبار الذين اعتاد المجتمع أن يراهم فاعلين مهما امتدّ بهم العمر.

المادّة 51 الفقرة "أ": "يشكّل في الوزارة مجلسٌ يسمّى "مجلس الأوقاف الأعلى". ولهذا المجلس صلاحيات عدّة، منها ما ذكرته المادة 89: "لمجلس الأوقاف الأعلى أن يؤسّس شركاتٍ تجاريّة مملوكة له..".

من الملاحظ في المجلسين اللّذين تمّ تشكيلهما في الوزارة بموجب المرسوم أنَّهما يحملان وصف "الأعلى"، وهو وإن كان أمرا شكليّا ومستخدما في المؤسسات السّياسيّة والتّنمويّة، غير أنَّه في المؤسسات الدّينيّة يستخدمُ عادة في المؤسسات الدّينيّة الشّيعيّة، كما أنَّ هذه المادّة تعطي الوزارة شهادة عبور إلى العمل الاقتصادي والتّجاري، وهو يعطي مدخلا للجهات الدّينيّة ذات الحظوة دون غيرها لتكون ذات أذرعٍ اقتصاديّة.

إنَّ هذا المرسوم يمثّل دون أدنى مبالغة تحوّلا خطيرا نحو الإحكام المطلق على الجسم الدّيني في سوريا، وإغراقه في أتون استبدادٍ مضاعف، وسلبا لآخر الأنفاس التي يمكن أن يتنفّسها العاملون في الحقل الدّيني وسط ركام بلدٍ حطّمته الحرب، ومحاولة إضافيّة لسلبِ أعزّ ما يملكه شعبٌ ووطن: الهويّة والحضارة.