قضايا وآراء

قراءة نقدية للتطبيقات الغربية لليبرالية السياسية

1300x600

برغم ما حققته الديمقراطية الغربية من انتشار في عالم اليوم، وبرغم عمليات الترويج واسعة النطاق لاعتبارها النظام الأفضل على مدى التاريخ، والذي يجب أن يحكم حتى نهايته، إلا أن القراءة النقدية ينبغي عليها ألا تسلم بذلك. فلم يقف التاريخ ولن يقف عند نظام معين، وستظل حركة المجتمعات والمستجدات تدفع للبحث عن الأفضل دائما، وستظل للمجتمعات خصوصيتها الثقافية التي تفرض نفسها على حركة التطور الطبيعي.

ومن هنا، كان من الضروري أن نرصد أهم الانتقادات التي تم توجيهها للديمقراطيات الغربية؛ لكي نبني من خلالها نظرية نقدية عامة تساهم في بناء النظام الأفضل للكرامة الإنسانية، والقادر على الاستجابة لمتطلبات الناس ومشكلاتهم، والإجابة على أسئلة العصر والتحديات المتجددة.

1- الليبرالية السياسية تعبر بشكل حرفي عن المعرفة والثقافة الأوروبية المادية اللادينية، والتي تم تدشينها في عصر النهضة للخروج من ظلمات العصور الوسطى، وكان من نتائج استعمال هذه المعرفة في الدراسات السياسية:

أ- أن تم استبعاد الدين عن عملية بناء القيم والنظم السياسية، وكان ذلك إيذانا بتكريس طرد الدين من كافة جوانب المجتمع.

ب-  كما تم الفصل بين الفكر والممارسة السياسية، فأصبح الفكر مجردا من قيمته العملية، وأصبح الفعل مجردا من التوجيه والترشيد، ولا تحكمه سوى الأهواء.

2- كما يجب التنبيه لأهمية الكشف عن العلاقة بين الليبرالية السياسية ونظرية المعرفة الأوروبية، وذلك حتى تتبين: حقيقة العلمانية، ابنتها الشرعية، والتي بدأت عند حياد الدولة تجاه الدين وانتهت إلى هيمنة النزعات المادية على كل قطاعات الحياة، وطرد الدين من كل نواحي المجتمع.. كما تتبين حقيقة الشيوعية ابنتها، الشرعية الثانية، والتي كفرت بالله وأنكرت وجوده منذ اللحظة الأولى، حتى صارت الطبيعة والضرورة والصدفة هي التي أوجدت الكون ووهبت الحياة، ووضعت لهما السنن والقوانين.

3- كما أوضحت الدراسة قصور مفهوم الحرية الذي اتخذته النظم الليبرالية هدفا أسمى وقيمة عليا. فلقد جاء هذا المفهوم مرتديا لباس السلبية، حيث الامتناع عن أي عمل يضر بالغير، متجاهلا ما تقتضيه الحرية من واجبات تجاه الآخرين، كما أنه قد حول المجتمع إلى غابة لا حق فيها للفقير أو الضعيف، بل وتصبح مساعدة الدولة للفقراء والمرضى والمسنين وقوفا أمام القانون الطبيعي للتطور، وذلك بمحاولتها إبقاء الأنواع التي لا حق لها في البقاء.

4- كما يجب الانتباه لعدم صلاحية الحرية كهدف/ قيمة للنظم السياسية، كما أن الحرية التي يمكن أن تكون أسلوب حياة، لا يمكنها أن تكون هدفا أعلى للمجتمع ونظامه، كما أن ضرورات تقييدها لسد الحاجات العامة وحماية الحريات، قد انتقل بها إلى مرتبة أدنى، وهو ما يطعن في مصداقية اتخاذها قيمة عليا للنظام السياسي، فضلا عن أن الحرية - وفق أصول المذهب الفردي - لم يعرفها نظام سياسي قط، وذلك لاصطدامها بالقيود اللازمة لقيام المجتمع السياسي.

5- كما أن التصدع الذي أصاب المذهب الفردي على أثر الأزمات الاقتصادية التي اجتاحت دوله خلال القرن العشرين، إنما يطعن في الأسس التي قام عليها المذهب وأفكاره الجوهرية. فلقد ترتب على هذه الأزمات، الانتقال من مفاهيم الدولة الحارسة إلى مفاهيم الدولة المتدخلة، والذي أفسح المجال أمام تدخل الدولة على حساب الحقوق والحريات التي لم يكن يجوز المساس بها.

6- كما يجب الالتفات إلى أن حقبة الليبرالية الأوروبية هي التي أنتجت الاستعمار الحديث، في ظل الدولة القومية التي تصارعت على أرضيتها القوى الأوربية، وتنافست على احتلال العالم واستنزاف ثرواته واستعباد شعوبه.

7- وإذا كانت الليبرالية السياسية تفترض أن حركة القوى المجتمعية التلقائية تفرز الأصلح وتنحى الرديء، فكيف وصلت النازية والفاشية إلى قلب القيادة في أوروبا، ومن ثم تدمير القارة الأوروبية وأجزاء واسعة من العالم، في حربين عالميتين لم يشهد العالم مثلهما. فإذا قالوا: إن الليبرالية يجب أن تحظر بعض القوى والحركات وتجنبها المشاركة في الحياة السياسية، قلنا: فمن الذي يحدد هذه القوى؟ ومن الذي سيحظر وجودها؟ أليس ذلك تناقضا جوهريا مع أسس الليبرالية السياسية، وهدما لأعمدتها الرئيسية؟

8-كما أن النظرية السياسية الليبرالية لم تستطع حتى الآن، أن تؤسس نظريا لدولتها القانونية، والتي تعد الضمانة الأكيدة للحريات العامة وفق النظرية، فلقد ثبت أن التلازم ليس حتميا بين المذاهب والنظم الديمقراطية، وبين فكرة الدولة القانونية، فنظرية السيادة قد أطلقت السلطة من كل عقال، وهو ما يؤدى إلى انهيار فكرة الدولة القانونية، بل والقانون العام برمته، ولما جاءت المحاولات المتعاقبة لتقييد سلطه الدولة ومن ثم التأسيس لدولة القانون وضمانات الحريات العامة، فإنها قد لاقت فشلا ذريعا، فقد فشلت نظرية القانون الطبيعي، ونظرية الحقوق الفردية، ونظرية التضامن الاجتماعي، ونظرية التحديد الذاتي، فشلت جميعاً في أن تضع قيوداً حقيقية على السلطة السياسية.


9-كما رصدت الدراسة رؤية بعض أنصار الديمقراطية في أن النظام الديمقراطي لا يكفل حكم القانون بإطلاق، فقد يستخدم المجلس التشريعي الذي يسن القوانين في التعبير عن فئة أصحاب المصالح ورؤوس الأموال الذين يسيطرون على الحياة السياسية، كما قد طرح التطور الحديث للحكومة الديمقراطية ما يسمى بالحكومة الموازية أو المصالح المنظمة، والتي تلزم المشرع بالتدخل لصالحها بإصدار تشريعات معينة، لا تعبر إلا عن مصالح جماعات معينة.


10-كما أن الملاحظة التاريخية تؤكد على أنه عندما تصبح الليبرالية السياسية خطراً على الليبرالية الاقتصادية، أي عندما تتناقض الحريات السياسية مع مصالح الرأسماليات الكبرى، فإن الليبراليين يسارعون بإجهاض الأولى لصالح الثانية، وفى الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، نجد آليات ضخمة قوية، تقوم بالضغط على أي رئيس ليبرالي قد يعرض الرأسماليات الكبرى للخطر.


11-كما قد ثبت أن الارتباط بين الحريات المدنية والحريات السياسية، والذي أكدت علية النظرية الفردية، قد أدى إلى انهيار فكرة الحريات السياسية، على أساس أنه كيف يمكن الجمع بين اعتبار الفرد مصدر السلطة وأن السيادة للشعب، وهو مقتضى الحرية السياسية، وبين فكرة الحقوق الفردية التي لا تسمح للسلطة أن تمس بها بحال.. كما أن الواقع العملي قد أثبت أنه بمجرد تقرير حق الاقتراع العام على أساس الحرية السياسية، ووصلت الطبقة الوسطى للسلطة، فإنه قد تغير مفهوم الحقوق الفردية، فبعد أن كانت حقوقاً طبيعية تسبق الدولة وتقيدها، أصبحت مجرد قدرات عارضة قابلة للتطور، وأن مضمونها يرتبط بأهداف السلطة. وهكذا ثبت خطأ دعوى خضوع الأولى للثانية، لأن الأغلبية الشعبية عندما تمكنت من السلطة السياسية، قامت بعملية تنظيم دقيق للحقوق الفردية، ولم تر حينئذٍ أنها حقوق طليقة، تقيد السلطة ولا تتقيد بها.. أما إذا حدث تعارض بين الحريات السياسية والمدنية، فإن النظام يكون أمام خيارين لا ثالث لهما: فإذا قام بالتضحية بالثانية لصالح الأولى، فإنه يكون قد هدم نظرية الحقوق الفردية الطبيعية اللصيقة بالإنسان والتي لا تقبل المساس بها، وإذا ضحى بالأولى لصالح الثانية فإنه يكون قد هدم النظام الديمقراطي من أساسه.


12-كما أن أزمة الحريات التي تعيشها المجتمعات الغربية المعاصرة، على وقع العمليات الإرهابية، قد أكدت على عمق التعارض بين مفهوم الحرية ودواعي الأمن، وذلك بعد أن لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تكبيل واختراق العديد من الحريات المدنية، واستخدام المحاكم الاستثنائية، ولجوء القوات الأمريكية إلى ممارسة التعذيب على نطاق واسع، واتخاذ سجون سرية في مناطق مختلفة من العالم.


13-كما أنه إذا كانت الليبرالية تشترط، لكي تنجز نموذجها السياسي، أن تكون العقائد المنتشرة في المجتمع عقائد عقلانية. فما هو معيار تحديد تلك العقلانية؟ ومن الذي سيقوم بالتحديد؟  إن ذلك يطرح إشكالية هامة تعرض أسس النظرية للتصدع، ولا سيما أن أسلوب التعامل والتعاطي مع هذه العقائد، إنما يعمل على احتوائها، وإنهاء وجودها في المجتمع!!


14-كما أنه إذا كان حكم الشعب بإطلاق، هو التعبير الجوهري عن نظام الحكم الديمقراطية، فكيف يمكن أن نتصور – كما يرى بعض أنصار الديمقراطية- قيما ومبادئ ديمقراطية تحظى بشرعية أخلاقية، تسمو فوق الموافقة الشعبية، إن ذلك هو اعتراف صريح بأن حكم الشعب لا ينتج بالضرورة نظماً رشيدة، أو أنه يضمن بإطلاق الحريات العامة، فضلاً عن الإشكالية التي تثيرها، ماهية معايير الشرعية الأخلاقية؟  ومن الذي يقوم بتحديدها؟


15-كما أن الحرية السياسية ليست هي المعيار الوحيد لاختيار النظام السياسي الأمثل، وإن كانت تصلح سنداً قوياً لشرعية الحكم، فقد تكون الحرية السياسية أداة لكبت الحريات، إذا لم يوفق الناخبون لاختيار الأصلح، كما أن الأفراد قد يصوتون بأنفسهم على عبوديتهم، حين يضعون ثقتهم في طاغية، كما أن اختيار الحكام عن طريق الاقتراع، إنما يعبر عما يدور في عقل المقترع الذي يصوت على أساس مصلحته الخاصة، وليس من أجل الصالح العام، بل قد لاحظ بعض الأوروبيين أن هناك تلازماً واضحاً بين ظاهرة شيوع وانتشار الاقتراع العام، وبين اتساع نفوذ وتسلط الحكومات وتراجع دور البرلمانات. كما أن الانتخاب كان هو سبب ظهور الديكتاتورية في دول أمريكا اللاتينية. كما لوحظ في الدول الديمقراطية العريقة أن السلطة التنفيذية، وخاصة رئيس الدولة، يباشر سلطات تتجاوز اختصاصاته الدستورية، كلما كان يتمتع بشعبية كبيرة.. كما أن التطور السياسي المعاصر، إنما يميل إلى دعم الثقة في الحاكم المنتخب بدلاً من تقييده، وأن دعم الثقة في السلطة السياسية هو الكفيل بخلق مجتمع عادل أكثر تقبلاً للقيود!!


16-وإذا كانت الديمقراطية تفترض مشاركة شعبية واسعة، فكيف يمكن أن نصف المجتمعات التي يعزف الكثيرون فيها عن المشاركة في الحياة السياسية، بل إننا يمكن أن نرصد عدداً لا يستهان به من المجتمعات الديمقراطية التي لا يبدى أفرادها أي اهتمام بالسياسة، وينعدم نشاطهم في مجالاتها، وهناك من يبدون نفوراً أو لا مبالاة بكل ما يخص السياسة والشأن العام.


17-كما أن حكم الشعب لا يضمن بالضرورة توافر الحريات، ويمكن تصور ذلك عند دراسة الحلول التي طرحتها الليبرالية الغربية في التعامل مع الأقليات، والتي لم تتقبلها إلا كرهاً أو في وضع أدنى، كما تعرضت في ظلها للتحامل والتمييز والاضطهاد والتفرقة والعدوان، فضلاً عن العمل على صهرها، والأوضح من ذلك إذا تصورنا وضعاً تصوت فيه الأغلبية لصالح حرمان الأقلية من بعض حقوقها المدنية أو السياسية أو الدينية ، كما حرمت الأغلبية الفرنسية الأقلية المسلمة من حق ارتداء الفتيات للحجاب، برغم أنه فرض ديني، ويرتبط بالحرية الشخصية، وهو تصور يعكس فشل الديمقراطية عموماً في طرح حلول صحية في التعامل مع مشكلة الأقليات، والتي تظن أنها قد تفوقت فيها، وربما كانت أزمة الأقليات المسلمة في فرنسا مؤخراً تعبيراً واضحاً عن ذلك، وهو ما أدى إلى انفجار الأوضاع، واعتراف الحكومة بممارسة التمييز العنصري على نطاق واسع، ولا يزال المسلمون في المجتمعات الغربية أقل أتباع الديانات تمتعاً بالحقوق الحماية، مقارنة بأتباع الديانات الأخرى ، ولا يزال الإسلام غير معترف به رسمياً بالدول الغربية!!


18-كما أنه قد أصبح من الأهمية بمكان، وخاصة في هذه المرحلة الهامة من تاريخ العالم، أن نلفت الانتباه، إلى التناقض الواضح بين ضرورة قيام النظام الديمقراطية على الانتخاب واختيار الشعب والإرادة العامة واتباع النهج السلمي في الوصول للسلطة، وبين عمليات فرض هذا النظام على كل المجتمعات، وتصديره عن طريق القوة المسلحة!!  تحت شعار نشر الديمقراطية والحرية!!


19-كما يجب ملاحظة أن التعامل الغربي مع العالم من خلال مفاهيم حقوق الإنسان، قد كشف عن ازدواجية عصفت بما للمفهوم من قيمة إنسانية، فلا نزال نرى الدول الليبرالية الكبرى وهي تغض الطرف عن دول حليفة تنتهك كل الحقوق الإنسانية المقررة محلياً ودولياً، في ذات الوقت الذي نراها تمارس كل أنواع الضغوط على دول أخرى، بدعوى انتهاك حقوق الإنسان، لمجرد خروجها عن سياساتها الاستعمارية!! وفي الوقت الذي تصب فيه الدول الغربية جام غضبها على كل من يشكك في محرقة اليهود (وكأنها من العقائد اللازمة للإنسانية!!)  نجدها تقيم المحارق للمسلمين في العديد من الدول او تصمت عنها وتدعم محرقة الفلسطينيين والمحارق الأخرى المقامة في بلاد العالم الإسلامي.. كما تتستر على المحارق المقامة للشباب المسلم في العديد من السجون العلنية والسرية حول العالم!! كما تغض الطرف عن اضطهاد هذا الشباب من قبل الأنظمة الحليفة لها في العالم الإسلامي، بل وتدعم ذلك وتحرض عليه في أوقات كثيرة.