قضايا وآراء

بئر الخيانة

1300x600
يوما بعد يوم، تزداد قناعتي بأن تأخر النصر أو النجاح أو التوفيق ليس بسبب قوة العدو، ولا صعوبة العقبات وقسوة التحديات، وليس بسبب تقص القدرات والمهارات، ولكن بسبب الخيانة التي عادة ما تأتي من داخلنا.

الخيانة ليست فقط أن يتم تجنيد بعض أعضاء فريقك أو جماعتك أو تيارك لصالح الفريق المضاد أو المناهض لك ولأفكارك، بل في أحيان كثيرة تكون الخيانة في التخلي عن ما تؤمن به في لحظة لا أعتبرها لحظة ضعف ولا لحظة خوف، بل هي لحظة تعبر عن حقيقة مستترة ظلت خافية عن من حولك لسنوات، ومع أول فرصة ظهرت الحقيقة، وهي أن إيمانك بقضيتك لم يكن سوى إيمان "فالصو"، مزيف، وغير حقيقي، وأن لحظات الصمود التي مرت بك أو مررت بها ليست إلا لحظات الستر التي سترك الله فيها؛ في انتظار لحظات الكشف عن حقيقتك وجوهرك ومعدنك.

أسوأ أنواع الخيانة بالطبع هو أن تصحو من نومك لتكتشف أن رفيق دربك أو معلمك وملهمك لسنوات؛ ما هو إلا عميل باع كل أسرارك وما علمه عنك لعدوك أو لخصمك أو للناس عندما اختلفتم معا في رأي أو فكرة تحتمل الاختلاف، لكن قلبه الأسود المليء بالحقد والكراهية كان يراك مجرد "سبوبة" أو مصلحة أو زينة يتزين بها أمام الناس. ولما ظهر جهله الذي فضحته بحجتك، وبان فشله الذي أتيت عليه بألف دليل، وبدلا من مواجهتك انتظر اللحظة التي تلتف عنه وتمضي في حال سبيلك ليطعنك بلسانه الحاد في كافة المنتديات، دون أن يمنحك فرصة لترد عن نفسك ما قاله في حقك.. وكأنه - وهو الخائن - لا ينطق عن الهوى، رغم أنه ما فعل فعلته إلا عن هوى ورغبة في الانتقام من شخص اختلف معه في الرأي.. مجرد الاختلاف معه ينقلك من خانة الأصدقاء والأحباب والمؤيدين إلى خانة المرتدين والمنافقين ومن باعوا الدين... هذه خيانة...

أن تكون معي في لحظات الصفو والمودة والمحبة، وفي صفوف المقاومة التي تعاهدنا أن تكون عنوانا للثورة واتفقنا أنها تمثل الخلاص من دولة الظلم، ثم فجأة تخرج إلى الناس مستسلما، خاضعا خانعا لأن الظروف أقوى منك، فهذه خيانة؛ لأنه كان بمقدورك أن تنسحب في هدوء لا أن تمنح خصمك وخصمي فرصة ذهبية للشماتة وضعضعة صف الثورة. ليس هذا فحسب، بل أن تخرج لتكذب رواية متفقا عليها، وأحداثا موثقة وتتنكب عن عهود وعقود ومواثيق، لا بل وتنفي وجودها وهي لا تزال على قيد الحياة وهنالك شهود عليها.. فهذه خيانة ووقاحة لن يفلت صاحبها بفعلته ولو قدم عشرات بل مئات المبررات... فالخيانة خيانة ولا يمكن أن تكون سياسة أو ذكاء أو مفهومية...

فارق كبير بين أن تقرر شيئا ثم تنظر فيه مع المعطيات والمستجدات ثم تقرر العدول عنه لما هو أفضل منه، وبين أن يقرر لك غيرك الطريق الذي يجب أن تسلكه الثورة. وبدلا من أن تناقش الإخوة رفاق الدرب والنضال والثورة، إذا بك تنقلب على كل شيء وتشوه كل ما كان، وتكاد تخلع ثيابك حتى لا يبقى عليك أثر للثورة ولا بقية من غبار الجهاد في وجه الانقلاب... لا ليس هذا فحسب، بل إن الخيانة تزداد سوءا حين تتطوع متبرعا للإرشاد عن هؤلاء الذين اختلفت معهم وانقلبت عليهم، حتى بات أحدهم لا يأمن من أين تأتيه الرصاصة؛ أمن عدو بعيد أم من رفيق درب قريب تنكب عن ما كان يقوم به وفجأة أصبح منددا بالثورة وكل رجالاتها..

من يبيع أخوة بذل فيها المال والعرق والغالي والنفيس من أجل أن ينعت برجل السلام... خائن..

من يلقي ببندقيته وهو في الصفوف الأولى، ويرفع راية الاستسلام وسط المعركة، ويتهم رفاقه بضيق الأفق وعدم الفهم..

من يكذب على نفسه وعلى التاريخ، وعلى الشهود الأحياء الذين يرفضون أن يسلكوا مسلكه ويفضحونه على رؤوس الأشهاد..

من يبيع الفكرة ويتنازل عن الرسالة ويخون الرجولة، ويبدو متهافتا على سلام لن يناله من عدو لا يزال يشهر البندقية في وجوه المقاومين...

من يفعل ذلك.. قد سقط في بئر الخيانة، ولن ينفع معه كلام ولن يجدي معه حوار فقد مات... والموتى يبعثهم الله يوم القيامة، أما في الحياة فلا يجوز حتى الصلاة عليهم ولا الدعاء لهم.

وفر دعاءك للصامدين والمرابطين والأتقياء الأخفياء، فبهم ولهم يأتي النصر المبين إن شاء الله.