مقالات مختارة

العرب في حاجة إلى الخيال والرؤية للعبور نحو المستقبل

1300x600

الشعوب العربية بغالبيتها مجتمعات شابة، ومن باب الفرضية (أكاديميا) فإنها يجب أن تكون مشبوبة بالحيوية، ومطعمة بالأمل، ومسكونة بالإبداع والإنتاجية العالية. 


وحتى لا أقع في فخ التعميم والمطلق، فإن نسب البطالة المباشرة وغير المباشرة (البطالة المقنعة) في معظم الدول العربية تتفشى في أوساط الشباب العربي بإيقاع مَرَضِيٍ، ويتحول بشكل متسارع إلى مصاف الأمراض المزمنة التي لا علاج لها. على أطراف تلك الامراض وحوافها المترامية بعيدا في الاصقاع العربية، والغائصة في أعماق المجهول، تتبلور خارج حدود مجرتنا الادراكية، وتتراكم الكثير من الاعراض الطفيلية، التي تتغذى على عوامل بقائنا، تلك العوامل التي تتآكل يوما بعد يوم.


لم تدرك أو تجاهلت الطبقة الحاكمة أو المتحكمة في الدول العربية عموما، مع استثناءات طفيفة هنا أو هناك، أن التنمية الحقيقية بحاجة إلى توطين المعرفة، ورفع سوية المواطن العربي وقدرته على تعظيم الإنتاجية بطرق إبداعية متحررة من نسخ الاخرين وتقليدهم، مع إعادة التعريف المفاهيمي والعملي لمبادئ التكاملية وتحريرها من قيودها التقليدية، إلى افاق أكثر اتساعا ورحابة، بحيث تتحول تلك العلاقة إلى صناعة الابداع والتركيز عليه، كمحرك لعملية الإنتاج والتحليق به في فضاءات التنمية المتصالحة مع ذاتها. وربما أن هذه المصالحة تتطلب الخروج من عتمة القبليات التي يغرق العرب بها في معظمهم، ما بين قبليات عائلية، وقبليات حزبية سياسية، وقبليات اقتصادية احتكارية، وقبليات مناطقية جغرافية، بحيث تتم المصالحة في إطار من أنسنة التنمية ببعدها الديمقراطي المعتمد أساسا على الاستثمار في البنية الإنسانية، بدون النظر إلى الخلفيات الانتمائية للإنسان، سواء أكانت اجتماعية أو دينية، أو سياسية حزبية، أو عسكرتارية وطنية، الأنسنة بطبيعتها الواسعة البعيدة عن الجندرية، تلك التي ترتبط معادلاتها ومكوناتها وانفاسها بعقلنة العملية الإنتاجية القائمة على الانسان المؤهل فقط.


هذا الانسان، عابر للقبليات والوطنيات، ومتمرد على القوميات والعرقيات على اختلافها، أما تأهيله فهو عين الحكاية وخطها الدرامي المترابط والمتصاعد، وعقدتها الروائية المتشابكة، التي تحملنا بعيدا جدا عن مفهومنا التقليدي المتحجر عن معنى المؤهلات، خصوصا في إطارها الجامعي التقليدي التلقيني، الذي عطل طاقة العقل وقدرته الحيوية على الإبداع، بل حكم عليه بعقوبات حاجزة للحرية، مؤهلات تحلق بالجامعة إلى فضاءات صناعة الانسان بدل حشوه وتلقينه وحبسه في زنازين الجهل. تتحول الجامعة إلى حاضنة لنظام تعليمي تختلف مخرجاته الإنتاجية بطريقة جذرية عما نعرفه اليوم في بلادنا. يجب أن تثور الجامعة على دورها التقليدي المعتمد أساسا على التلقين وفرض المقررات المحددة للمذاكرة والاختبار، وكثير منها قد اكل الدهر عليها وشرب، وأصبحت غير صالحة للاستهلاك العقلي البشري. يجب أن يتم التحليق في فضاءات البحث وصناعة مصادر التفكير الحر، وقيادة الشباب للانفتاح على ثقافة البحث العلمي في إطاره الأكاديمي، القادر على صقل التجربة بدلا من تحديدها وحصرها في مجموعة من الكتب المقررة فقط.


في تجارب الدول الناجحة، ولا أقصد الغربية منها، ولكن بعض الدول الآسيوية وعلى رأسها ماليزيا، وربما تركيا بدأت تخطو بشكل واثق في الاتجاه ذاته، وما يلحق بركبها التنموي من نماذج مثل اندونيسيا، خلاصات مهمة في بناء الدولة وتطويرها ورفعها إلى مصاف الدول المتقدمة، والمتفوقة على عقدها التاريخية في الفرز العرقي، أو الجندري أو القبلي، التي تتركز تجاربها في الاعتماد على التعليم الإبداعي المتحرر من عقد التلقين، والمكرِّسْ لآفاق البحث وامتلاك مفاتيح الإبداع. وعلى الرغم من أن مثل هذه الدول مازالت تعاني من بعض المشاكل هنا وهناك، الا أن رؤيتها العامة (شعوبا وحكومات) تسعى بشكل دائم إلى معالجتها بطريقة فيها من الإبداع والحركة ما يوصلها إلى نتائج إيجابية ولو بعد حين. ركزت هذه الدول على البناء الإنساني، وأدركت أن حصانتها هو الإنسان القادر على الإنتاج والإبداع والتخيل، بحيث يستطيع مغالبة الظروف، رغم قلة الإمكانيات والموارد الطبيعية في بعض منها بشكل ملحوظ، وإعادة رسم خرائط حاضرها ومستقبلها ببنية تحتية إنسانية مؤهلة لإنشاء بنية تحتية صلبة بمعناها التقليدي. 


أخطأ العرب، بل ارتكبوا خطيئة عندما ظنوا أن استخدامهم للتكنولوجيا المستوردة يعني انهم متقدمون كبقية الشعوب والدول التي تنتجها، وتعمقوا في أخطائهم عندما ظنوا أن تكثيفهم لاستخدام المنتجات التكنولوجية، دليل على لحاقهم بالشعوب المتقدمة، ولم ينتبهوا أو تجاهلوا حقيقة كونهم مستهلكين تقليديين لمنتجات غير تقليدية هذه المرة. قلة قليلة من الأمثلة الواعدة التي يمكن الاستنارة بها في عموم التجارب العربية، ولكن جلها يشير إلى حالة من السقم الذي يتجذر عميقا في تربة عربية منفردة، تكبلها أمراض التاريخ وإفرازاته المليئة بالعقد المرضية، التي لا علاج تقليديا لها على المستوى المنظور.


إن الحالة العربية لن تتغير ولن تتطور في اتجاهات تقدمية، إلا في الوقت الذي نبدأ فيه بالتركيز على هوية الإنسان ببعدها الإنساني، الذي يعلي القيم المبدعة لحقوق الإنسان ومتطلبات هذه الحقوق، حيث يطلق العنان لكافة الأجيال على تأسيس هوية إنسانية يتسيدها الفكر الإنساني وفلسفاته التي لا تحدها الحدود. 


لم تتقدم مراكب التنمية والتحرر من الفقر وعقد الجهل إلا بتطوير الفلسفة الإنسانية، التي تتمحور حول الإنسان وقيمته الإنسانية المطلقة التي يحميها القانون، بل يكون محورها الأساسي، حيث المحافظة على التوازن المصلحي الذي يجعل الباب مفتوحا لأصحاب الأفكار الريادية بالظهور والازدهار، مهما كان فقرهم المادي أو طبقتهم الاجتماعية أو خلفياتهم العائلية. نقول ذلك وقد رست في اذهاننا مجموعة من تجارب الفكر القومي والديني والوطني، على اختلاف طبيعة الأنظمة التي تبنتها ما بين ملكي وجمهوري واميري وعسكري وغيرها، بحيث انها جميعا لم تقدم قراءة فكرية ناقدة لواقع العقل العربي في طروحاته الفكرية، سواء ما تعلق منه بالأدوات التكتيكية أو الرؤى الاستراتيجية. هذه القراءة الناقدة، ستقدم خرائط طرق جديدة لإبداع أدوات غير تقليدية عابرة لكل الحدود الضيقة ولا تتعامل مع الانسان لكونه أداة تنفيذية جاهزة للتوجيه، وإنما تتعامل معه كجهاز فكري قادر على استيعاب الأفكار ومعالجتها والإضافة اليها، بل التفوق عليها ووضعها في أطر قابلة للتطوير والمواكبة، لما فيه من جَسْرٍ للعجز الفكري المتداخل في يومياتنا البسيط منها والمعقد. 


الثورة الصناعية في أوروبا خصوصا، وفي العالم الغربي بوجه عام، اعتمدت على الخيال العلمي، الذي بدا في وهلته الأولى عبارة عن فانتازيا صالحة للتسلية والقراءة، لتبديد الفراغات الوقتية فقط، فاذا به ينقل أوروبا إلى فضاءات التصنيع والإنتاج وثورة الأتمتة وآلات الإنتاج. تلكم كانت المنهجية الأساسية التي اتبعتها أوروبا، والعالم المتنور، تحرير الفكر، والكفاح من أجل إنسان، تصان إنسانيته لذاته الإنسانية، وليس للونه أو عرقه أو دينه أو خلفيته الأيديولوجية. بطبيعة الحال، من البديهي القول بأن هذا لم يأت على حين غفلة، وانما جاء بعد عقود من الحت والتعرية للكثير من الأفكار والإنتاجات الفكرية، التي انبجست من مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحزم الفكرية، التي بلورتها مساحات مفتوحة لعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين وقادة الرأي والكلمة. تلك التي أسست بنية تحتية لمجموعة من البنى الفكرية والتجريبية كانت الآلة الصناعية وجوهر تطويرها التكنولوجي نتاجا منطقيا لها على ما نراه اليوم. العرب والمسلمون في عصرهم الذهبي، مروا بهذا السياق التاريخي، منحوا مساحات واسعة لخيالاتهم العلمية والفلسفية والفكرية وقدموا الكثير للإنسانية جمعاء، وكانوا حينها قد تحرروا من العقد القبلية، وصنعوا صيغا فكرية مختلفة تماما، كان الانسان وتطوير معيشته الركن الأساسي فيها. 


الوطن العربي بحاجة إلى إعادة البرمجة الإنسانية خاصته، ليعيد تغذية شرايينه الفكرية والفلسفية المنفتحة على الخيال والتجربة التي يقف الإنسان في قلبها، يتصالح مع ذاته ومع جواره، منطلقا من كونه كتلة بشرية فاعلة قادرة على ترجمة وجودها الإنساني بشكل فكري خلاق، مع القدرة على استثمار أقداره الجغرافية والديمغرافية بطريقة خلاقة، ذات نموذج إنساني يكون هدفه الأول هو حماية الإنسان وتعزيز حقوقه. مغادرة المربعات القبلية الحصرية، حتى تلك التي تلبس مسميات عصرية، أصبحت ضرورة ملحة في تطليق عقلية الانتقام الدامي مع المخالفين لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية أو اجتماعية. يجب أن يتم الانفتاح على مفهوم المواطنة، وإعادة رسمها بطريقة تتبلور من خلالها جذرية الحقوق الإنسانية، التي يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات التي يحكمها القانون ويحميها. ولعله من المهم التذكير هنا بأن ما تقدم لا يرتبط بشكل الحكم ولا بنظامه، سواء أكان ملكيا أو جمهوريا أو برلمانيا أو رئاسيا أو مزيجا بين أي منها، فكثيرة هي الديمقراطيات العريقة المبنية على أنظمة حكم ملكية منذ مئات السنين ومازالت، ولكنها تعتبر من أفضل الدول تقدما في مجالات حقوق الانسان والرعاية الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، سواء من سكانها الأصليين أو من المهاجرين إليها، ولنا طبعا في بعض الدول الاسكندنافية أوضح الأمثلة على ذلك. 


العرب في تشكيلتهم البنيوية وتوزيعهم الجغرافي والديموغرافي، سواء كانوا كتلة واحدة أو على شكل كيانات وطنية مستقلة بحاجة إلى الادراك العميق بان التداعيات الحالية، المتأصل منها والظرفي، قد تقودهم حتى إلى أسوأ مما هم عليه الان. 


الكتلة الخليجية بإمكانها أن تكون نواة حقيقية ومحركا لكافة أنواع التغيير الإيجابي في كل المنطقة العربية، ولكن شريطة تصالحها مع ذاتها وبناء رؤية موحدة نحو المستقبل الذي يكون فيه الجميع رابحا، بدلا من وضعية الانقسام والتجييش الذي يستنزف الجميع ويخرج منه الجميع خاسرا وبجدارة.

 

المنطقة العربية مؤهلة وبحق لان تكون واحة لتطوير كل أنواع الرؤى وربطها بالخيالات المستقبلية واضافة نوعية للإنسانية جمعاء. ربما أن هذا يعد حلما وخيالا لا يرتبط بالواقع، خصوصا في ظل ما تعيشه المنطقة من تراجعات ونزاعات دموية، ولكن من المفيد الانتباه إلى أن أوروبا التي نعرفها الان، كانت أسوأ حالا بكثير مما يمر فيه العرب الان. بحاجة إلى اجنحة فلسفية تحلق فينا بعيدا عن الأفكار المعلبة بصناديق مغلقة، والتحرر من الذات المنغلقة على نفسها والمعتقلة بين جدران الإحباط واليأس من التغيير على مستوى الافراد والجماعات والدول، وهذا ما نستطيع أن نبني به رؤانا وخيالاتنا المرتبطة بتغيير الواقع وبناء المستقبل. 

 

القدس العربي