كتاب عربي 21

عن عمرو خالد و"دجاج الوطنية" و"إسلام السوق"!

1300x600

هل كانت مشاركة الداعية عمرو خالد في إعلان للدواجن وربطها بمعان روحية ودينية أمرا غريبا؟ ولماذا أحدثت كل هذه الضجة؟ وهل كان يمكن أن تقابل بكل هذا الرفض من تيار عريض من "الإسلاميين" لو حصلت قبل سبع سنوات مثلا؟


إن الإجابة على هذه التساؤلات تحيلنا إلى الكتاب الذي ألفه الباحث الفرنسي "باتريك هايني" في العام 2005، قبل أن يترجم للعربية بعد ما بات يعرف بـ"الربيع العربي"، وهو كتاب يضع تنظيرا وتأصيلا مع الأمثلة من الواقع لظاهرة "الدعاة الجدد" الذين باتوا يقدمون منذ تسعينيات القرن الماضي ما أطلق عليه الكاتب "إسلام السوق".


تقوم الفكرة المركزية للكتاب على تحويل فئة جديدة من الدعاة لما يقدمونه من دعوة وتفاعل "ديني" مع المجتمعات المسلمة، سواء في الدول العربية أو في الغرب، إلى "سلعة" تتماشى مع ديناميات "السوق"، وهو ما جعل المادة التي يقدمونها تهتم بالتدين باعتباره شأنا شخصيا يركز على "تنمية الذات" و "العلاقة مع الآخرين" دون الاهتمام بالإسلام كما تنظر له "الحركات الأيديولوجية" باعتباره دينا يسعى لتغيير المجتمعات والتأثير بالفضاء العام، أو باعتباره حالة نضالية تسعى للثورة على الظلم ومواجهة الاستبداد والاستعمار، أو باعتباره دينا شاملا يهتم بالسياسة بما في ذلك تمظهرات حركات "الإسلام السياسي".


وخلافا لما قد يوحي به المصطلح "إسلام السوق" من إيحاءات سلبية عند المسلمين أو الناشطين الإسلاميين، فإن الكاتب يعتبر ذلك ظاهرة إيجابية تخاطب الطبقات البرجوازية في المجتمعات المسلمة، وتنتقل بالظاهرة "الإسلاموية" كما يسميها "هايني" إلى التماشي مع مفاهيم السوق العلمانية.


لم تكن مشاركة عمرو خالد وغيره من "الدعاة" مثل الشيخ محمد العريفي وغيرهم في نشاطات دعائية بحتة إذن ظاهرة معزولة عن مفهوم "إسلام السوق"، ولهذا فإن الغريب ليس ظهور الداعية المصري بإعلان "دجاج الوطنية" ولكن الغريب حقيقة هو "استغراب" قطاع عريض من الناس وخصوصا الإسلاميين من هذا الظهور!


لقد قام النموذج الذي يقدمه كثير من "الدعاة الجدد" على مفهوم تطوير الذات وتعميق الربح وفق آليات السوق، وإبعاد المعاني "النضالية" في التدين، فما الذي يمنع إذن أن يشاركوا بشكل فج بإعلان لشركة دواجن أو للرز أو للعطور؟ ولماذا كل هذه الضجة إذن؟


إن محاولة تفسير حالة "الغضب" والسخرية والاستغراب من مشاركة عمرو خالد في الإعلان الأخير لا بد أن تحيلنا للسياسة، إذ إن غالبية من اتخذوا موقفا "قويا" ضد الإعلان هم من الذين لديهم حكم مسبق على خالد لأسباب سياسية تتعلق بموقفه من الانقلاب على الرئيس مرسي وظهوره في فيديوهات بدا أنه "يحرض" فيها جنود الجيش المصري والأمن على خصومهم بعيد ارتكاب مجزرة رابعة ضد المعتصمين المؤيدين للرئيس مرسي والرافضين للانقلاب في آب/أغسطس 2013، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالا مركزيا حول الموقف من إعلان "الدواجن" لو ظهر قبل عام 2011، وهل كانت ردة الفعل ستكون قوية كما حصل مع ظهور الإعلان في بداية شهر رمضان المبارك هذا العام؟


لقد شارك مثلا عمرو خالد في ندوة في خيمة أحد المرشحين الكبار للحزب الوطني في الإسكندرية في انتخابات البرلمان عام 2010، ولم تحصل في ذلك الوقت ردة فعل كالتي حصلت الآن، مع إن مشاركته في ندوة تمثل دعاية لمرشح حزب استبدادي فاسد ممثل للسلطة في ذلك الوقت لا يقل خطورة إن لم يكن أخطر من المشاركة في إعلان تجاري، ولكن الحال في ذلك الوقت كان مختلفا لأن عمرو خالد لم يكن في حالة خصومة مع تيار "الإسلام السياسي"، ولم يكن مشاركا في مسار معاد جذريا له كمشاركته في مسار الانقلاب.


إن نظرة على صفحات عمرو خالد في مواقع التواصل الاجتماعي وإقبال بعض القنوات التجارية عليه حتى الآن لتقديم برامجه الدينية، ولجوء شركات تجارية مثل شركة الدواجن إليه للإعلان تعطي فكرة عامة أو "انطباعا" بأن جمهوره الواسع لا يزال موجودا، بعكس الصورة التي يعتقدها المنتمون لتيار الإسلام السياسي أو غيرهم من المسيسين الذين يهتمون بالشأن العام. صحيح أن هذا الانطباع ربما ليس علميا وغير مبني على إحصاءات، ولكنه يبقى انطباعا مشروعا ومبنيا على أسس صلبة يفسره استمرار الرجل بعمله وبرامجه وصفحاته التي يتابعها الملايين.


ولعل تفسير استمرار "شعبية" خالد عند قطاع عريض من غير المسيسين و المؤدلجين، يمكن تفسيره أيضا بفكرة "إسلام السوق" الموجه للطبقة البرجوازية، إذ إن الخطاب الذي يقدمه خالد منذ التسعينيات، وليس فقط بعد الانقلاب، قائم على مفاهيم تتماشى مع متطلبات السوق، ولا يمكن أن تبني معرفة أو فكرا "نضاليا" عند جمهوره، بل إن أكبر ما يمكن أن تقدمه هو تدين "شخصي" لا يهتم بالفضاء العام ولا بمقاومة الظلم، تدين يهتم بإصلاح النفس لا إصلاح المجتمع، ولذلك فإن القاعدة الصلبة لجمهوره -باستثناء المهتمين بالشأن العام الذين بنوا اهتمامهم هذا على أدبيات خارج نطاق ظاهرة عمرو خالد وغيره من "الدعاة الجدد"- استمرت وربما تضخمت على الرغم من دعمه لانقلاب دموي وصمته عن مجازر ضد معتصمين مدنيين، بل حتى ظهوره في فيديوهات تحريضية.


إن الدرس الأهم الذي يجب أن نستخلصه من هذه الظاهرة هو أن "إسلام السوق" لا يمكن أن ينتج حالة نضالية تهتم بالشأن العام وتتفاعل معه، ولهذا فإن الدفاع عن دور "الدعاة الجدد" الذين يمثلون هذه الظاهرة بالقول إنهم ساهموا في التأثير في قطاعات عريضة هو دفاع عن "تسطيح التدين" والتعامل معه كحالة شخصية تهتم بتطوير الذات، وهو أمر مهم بلا شك في الإسلام، ولكنها أيضا لا تكترث بالشأن العام، حتى لو كان هذا الشأن قتل آلاف الأبرياء ظلما في خيام اعتصام سلمي!