قضايا وآراء

مسيرة العودة والأسئلة الصعبة

1300x600

تقول القاعدة "اصنع أزمة أكبر لتخرج من أزمتك الحالية"، ربما كانت هذه القاعدة ما دفع الفلسطينيين إلى أن يخوضوا منذ الثلاثين من آذار/ مارس الماضي مسيرة العودة الكبرى تجاه الحدود الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، وهي الحدود الفاصلة بين الأراضي الفلسطينية التي احتلتها القوات الإسرائيلية بين عام 1948 وعام 1976، ويواصل الغزيون مسيراتهم حتى 15 مايو/ أيار القادم، حيث الذكرى السبعين للنكبة، بالتزامن مع عزم الرئيس الأمريكي نقل سفارة بلاده إلى القدس والاعتراف بالأخيرة عاصمة لكيان الاحتلال. وخلال أسبوعين من المسيرات السلمية المدنية، استشهد برصاص قناصة جيش الاحتلال أكثر من 30 شهيداً أحدهم مصور صحفي وإصابة ما يزيد عن 3000 منهم أكثر من 75 في حالة حرجة من بينهم 6 إعلاميين.

بعد مرور أسبوعين من بدء المسيرة السلمية، فإن الراصد لما حققته من أهداف، يرى أنها -بلا شك- عملت بقوة على عودة القضية الفلسطينية بشكل عام وحق العودة للاجئين الفلسطينيين بشكل خاص إلى أجندة السياسة الإقليمية والدولية، حتى باتت حديث الساعة إعلامياً وسياسياً، ربما كان من أهمها توجيه هيومن رايتس ووتش بياناً إلى المحكمة الجنائية الدولية تطالب فيه بإجراء تحقيق دولي حول استهداف إسرائيل للمدنيين في مسيرة العودة، بالإضافة إلى تصريح الأمين العام للأمم المتحدة الداعم للمسيرة.

نجحت –إلى حد ما- مسيرة العودة الكبرى في غزة في إعادة فرض الاستقطاب الصهيوني الداخلي من الصراع مع الفلسطينيين في تشويه صورة الكيان المحتل، فالكاتب الإسرائيلي أوري أفنيري يقول في هآرتس: أنا أخجل من الجيش الإسرائيلي، الذي أقسمت بالولاء له يوم تأسيسه، أنا قلق لأن إسرائيل أصبحت بلدا قبيحاً .. أسأل نفسي بعد أيام من اندلاع أحداث غزة: من انتصر حتى الآن؟ ليس لدي شك: انتصر الفلسطينيون، كان مستحيل فتح محطة تلفزيونية أجنبية يوم الجمعة دون أن ترى أعلام فلسطين أمام عينيك، بعد سنوات اختفت فيها القضية الفلسطينية من الإعلام العالمي، عادت بشكل كبير، لم يدافع أحد في الأمم المتحدة عن إسرائيل، ولا حتى أصدقاءنا .. لقد انتصر المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، والفلسطينيون سينتصرون أيضا في هذه المعركة."

في تصريح منسوب إلى المناضل الفلسطيني المقدسي فيصل الحسيني موجه إلى الإسرائيلي يوسي بيلين عام 1995، توقع بمنظوره الوطني مشهد مسيرة العودة قائلاً: "في يوم ما، سيتوافد مئات الألوف من الفلسطينيين نحو حدود غزة، ويدخلون إسرائيل دون سلاح، رغم أن الجيش سيقتل العديد منهم، وحين تتصاعد أعداد القتلى سيتدخل العالم، هذا السلاح السري للفلسطينيين، الذهاب في نهج غاندي، والتضحية بعشرات ومئات العزل، ليجبروا العالم على التدخل، فأحداث كهذه تزعزع الرأي العام الدولي، وتجبره على اتخاذ قرارات، كاميرات التلفزة ستبث المشاهد على الهواء، ولن تجد أحدا يتضامن مع إسرائيل، الصور والأرقام ستتكلم"..


لكن من الأهمية بمكان، كيف يمكن توقع مآلات المسيرة وحصادها؟ دون أن تكون الإضافة للقضية الفلسطينية صفراً بجانب أصفار أخرى سابقة!

المآخذ عليها؟


منذ احتلال الكيان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1948، أثبت الفلسطينيون أنهم لا يُعدمون وسيلة يقاومون بها المحتل بدءا من إلقاء الحجارة إلى الرصاص والصاروخ وليس انتهاءً إلى سلاح الاحتجاج المدني السلمي، ويُوجَّه إلى مسيرة العودة بعض التساؤلات الجوهرية التي تحتاج إلى أجابات عميقة، ومنها ما إمكانية تحقيق العودة للاجئين الفلسطينيين الآن؟ بمعنى أنه في حال حدوث إخفاق في تحقيق هذا الهدف فإنه بلا شك سيؤدي إلى صدمة وطنية لدى الشعب الفلسطيني، مما يعظّم الرواية لدى الطرف الآخر –صاحب مبادرة السلام- المهرول إلى الارتماء في أحضان إسرائيل وأمريكا تلبية وتنفيذاً لصفقة القرن المشؤومة والهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية.

الهدف الذي وضعته المسيرة المتمثل في عودة اللاجئين استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 هو هدف كبير وعالي، لكن التساؤل ما هي القوة التي ستجبر المجتمع الدولي على تنفيذ هذه القرارات التي صدرت منذ عام 1948؟ في الوقت الذي تقف فيه أمريكا ضد مشروع بيان أممي يدعو إلى التحقيق في قتل 15 فلسطينياً برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي في الجمعة الأولى من المسيرة؟ وعلى الرغم أيضاً من دعوة منظمة هيومن رايتس ووتش إلى قيام المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية بفتح تحقيق رسمي في مقتل العشرات من الفلسطينيين منذ بدء مسيرة العودة! بجانب عدم التزام الاحتلال الإسرائيلي بكافة القرارات والمواثيق الأممية ولجان التحقيق السابقة.

بجانب ذلك، أين هي القيادة الوطنية الفلسطينية التي تقود المسيرة والمناط بها التفاوض مع الطرف الآخر لتحقيق شروط المسيرة؟ وتزداد التخوفات من تسلق البعض لتحقيق مكاسب شخصية وتذويب المسيرة وتجريدها من أهدافها خدمة لأطراف خارجية إقليمية أو دولية وداخلية ترى في المسيرة تعطيلاً لدورها في المنطقة، الهادف إلى تجريم المقاومة وإن كانت ضد الاحتلال الإسرائيلي، كونها –المقاومة- تهدد بعض أنظمة الحكم العربية.

لا يختلف اثنان على مظلومية الشعب الفلسطيني وأحقيته في أرضه وجلاء المحتل عنها، لكن قوة البطش الإسرائيلية بحاجة إلى قوة تساندها، قوة داخلية فلسطينية متمثلة في السلطة سياسياً والمقاومة عسكرياً والشعب احتواءً ودعماً، وتوفُّر الأخيرتين وغياب السلطة الفلسطينية في رفد المسيرة الشعبية بالعمل السياسي لا يُبشِّر بخير، كما أن تجريمها للمقاومة وإمعانها في العقوبات على غزة ليس في مصلحة المسيرة أو دعم مقومات صمود المسيرة لتحقيق جزء من أهدافها المشروعة.
كما أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى قوة أخرى خارجية تساند حقوقه المشروعة لا مغازلة الاحتلال الصهيوني والادعاء في حقه في العيش على الأرض الفلسطينية المسروقة، قوة عربية وإسلامية ضاغطة على الجلاد لإيقاف بطشه لا على الضحية لتموت صامتة، وهو الأمر الخطأ في الوقت الخطأ الذي تقوم به ثاني أكبر دولة عربية وإسلامية هي المملكة العربية السعودية.

ما يجب أن يحذر منه الشعب الفلسطيني المُسَيِّر لمسيرات العودة، هو الأدوار الخفية التي بدأت التحرك لإنقاذ الاحتلال الإسرائيلي من ورطته كما يصفها محللون وقادة أمنيون إسرائيليون، فسيناريوهات الاحتواء هي مصلحة إسرائيلية بالمقام الأول، حيث استنقر الاحتلال نصف عدد قوات جيشه على الحدود لمواجهة مآلات المسيرة، ووفق لما نشرته صحيفة جيروسلم بوست ونقلته إذاعة الجيش الصهيوني، أن نداف أرغمان رئيس المخابرات الصهيونية أبلغ رئيس المخابرات المصرية عباس كامل في لقائهما الأسبوع الماضي في تل أبيب بأن إسرائيل لن تحتمل تواصل مسيرات العودة، وهو الأمر الذي تُرجم عبر طلب القاهرة من حماس باحتواء أو إيقاف المسيرة.


سارعت القاهرة إلى محاولة إنقاذ الاحتلال الإسرائيلي عبر التلويح بالجزرة للفلسطينيين بوعود مستحقة سلفاً ولا علاقة لها بمسيرة العودة، منها فتح معبر رفح على فترات منتظمة مقابل وقف مسيرة العودة خوفاً من تطور الأحداث إلى فوضى في المنطقة، وتارة أخرى التهديد بالعصا الإسرائيلية الغليظة كما ورد على لسان وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بالقول: "لا يوجد مدنيون في غزة" بمعنى أن الجميع الفلسطيني مستهدف، وهو يسعى بذلك إلى إحداث شرخ في بنية المجتمع الفلسطيني الحامي لظهر المقاومة، بجانب تحميل حركة حماس المسؤولية عن المسيرة وتنظيمها.


غير مستبعد وكعادته، أن يلجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى بدء مواجهة عسكرية مع الفلسطينيين بقصف مواقع عسكرية لفصائل المقاومة أو استهداف قائد كبير في المقاومة مما يعني هروباً إلى الأمام للتأثير على الاستحقاقات الاستراتيجية للمسيرة، لكن ويلات التصعيد العسكري لن يكون أقل كلفة من تداعيات المسيرة السلمية، بعنى أن المقاومة الفلسطينية لن تقف مكتوفة الأيدي في حال استهدافها مما سيؤدي إلى تصعيد خطير في المنطقة.

لكن، بعد دخول المسيرة أسبوعها الثاني، لابد على الفلسطينيين تحت الاحتلال أن لا يستعجلوا قطف الثمار، كما عليهم تشكيل مرجعية وطنية للمسيرة، لقد دفعوا ثمناً غالياً من أرواحهم وأرضهم، ولابد أن يكون الثمن على قدر التضحية، لقد ولدت الانتفاضة الأولى مشروع أوسلو الكارثي، وانتهت الانتفاضة الثانية بهدنات بلا مقابل، تبعها انتخابات ثم انقسام، وحروب غزة الثلاثة أجهضت سياسياً النصر العسكري، فهل للشعب قرار آخر في مسيرة العودة هذه المرة؟!