مقالات مختارة

بعد 90 عاما.. هل ما زلنا بحاجة لجماعة الإخوان؟

1300x600

في كثير من محطات التاريخ، ثمة شيءٌ جوهري يصنع "القادةَ الكبار"، هو القدرة على تحديد متطلبات اللحظة الزمنية الراهنة، وتقديم إجابات بسيطة ومباشرة للأسئلة الملحة. القدرة على تمثُّل روح العصر والتعبير الصادق عنه هو ما يمكنه استقطاب نخب المجتمع وقواه الفاعلة وكسب ولائهم، وهو أيضا ما يمكنه إلهام الجماهير وإثارة شغفها. لهذا كان "حسن البنا" قائدا كبيرا.

لم يكن "البنَّا" أول من شُغل بأسئلة الحداثة، والتغريب، وتخلف الدول العربية والإسلامية وتمزقها عقب هزيمة السلطنة العثمانية. ولم يكن أول ولا آخر من استهدف إصلاح المجتمع أخلاقيا وتربويا مما اعتبره مخالفة لتعاليم الإسلام وهديه. الحقيقة، لم يكن هذا أصلا مجال تميّز "حسن البنَّا" ولا هو مسار التجديد المحوري الذي جعله بين أهم قادة الإصلاح الإسلامي في القرن الماضي، مع التسليم أن جماعة الإخوان أسهمت في هذا المجال لا شك. لكنّ الإسهام الفريد الذي قدمه "البنَّا" وجعله التعبير الصادق عن روح عصره هو الإسهام السياسي والتنظيمي.

في هذا الوقت المبكر، لم تكن مسألة "الدولة العربية الحديثة" قد تبلورت كأزمة، مقارنة بأيامنا الراهنة، على صعيد التصور والممارسة. ومع هذا وضعها «البنَّا» على أجندته وأجاب عن أسئلة تتعلق بالانتماء الوطني والدستور والقانون والحياة النيابية...الخ. يمكن للبعض أن يجادلوا الآن حول مضمون الإجابات ومدى عمقها، لكن في حينه كانت العبقرية ليس فقط في بساطة الإجابات وواقعيتها ولكن أيضا في الوعي بتساؤلات اللحظة والسعي للاشتباك العملي معها.

مارس "البنَّا" السياسية والعمل العام في أكثر حقب مصر الحديثة ليبرالية. وظّف الصحافة والكِتاب، أنشأ الجوالة وفرق التمثيل وارتاد الأوبرا، ترشح للبرلمان، أرسل الرسائل والمبعوثين للملك والجامعة العربية وعصبة الأمم، قابل وفود العالم الإسلامي في موسم الحج، وسعى لإقامة علاقات وبناء نفوذ في دول خارج القطر المصري ليس فقط من خلال العمل الشعبي القائم على نشر فكرته ولكن أيضا على المستوى الرسمي والدبلوماسي. وأخيرا أنشأ الجهاز الخاص وشارك في حرب فلسطين، وكوّن مجموعات موالية في الجيش والشرطة والقضاء. بعد نحو 20 عاما من التأسيس، تجمعت "قطع البازل" وظهر أمام نخبة الحكم وقوى الاحتلال الأجنبي في مصر إلى أي مدى يمكن أن يمثل مدرس اللغة العربية هذا، وجماعته، تهديدا لمصالحهم.

اشتد عود التنظيم وتمدد لعموم القطر المصري مطلع الأربعينيات لكنه لم يتحول لمجتمع موازٍ. تمسك "البنَّا" بخطاب وهوية إسلامية صريحتين في كل ممارساته، إلا أنه لم يتحول في أي من مراحل دعوته إلى شخص "غريب" عن بيئته، كما لم ينجح أعداؤه ومنافسوه فيما نجحوا فيه لاحقا: عزل الجماعة ووضعها في "جيتو" منفصل عن باقي المجتمع. تُظهر صور "إخوان حسن البنا" - أو أفندية حسن البنا - في المؤتمرات والندوات وفي مقرات وأنشطة الجمعية، عدم إمكانية تفرقتهم عن عموم المصريين، وعدم تحولهم إلى "طائفة" متمايزة عن المجتمع.

النجاح الرئيسي لقيادة الجيش المصري بعد 90 عاما من تأسيس الجماعة لم يتمثل في الإطاحة بها من السلطة، بل في تصويرها لدى شريحة معتبرة من الرأي العام باعتبارها "طائفة" لها مصالح وأفكار وسردية خاصة لا تتقاطع مع عموم المصريين. هذا النجاح، لا شك، ساهمت فيه الجماعة نفسها من خلال نمط خطابها السياسي، وغيابها الفاعل عن مجالات الإعلام والثقافة والفن، فضلا عن تراجع دورها الأصيل في مجال الدعوة، لصالح خطاب وتصورات وأفكار "سلفية" بتأويل ضيق لأحد مدارسها المنغلقة، وليست سلفية "البنّا" التي صبغت الطور الأول من عمر الجماعة.


تعثر الجماعة، مؤخرا، لا يعني أنها انتهت أو أنه لم تعد ثمة حاجة لبقائها. هذه هي أكبر حركة سياسية اجتماعية عرفتها مصر الحديثة على الإطلاق، والعالم العربي عموما، كما أنها الأكثر تغلغلا في عمق المجتمع المصري. لا يظهر هذا في عدد عضويتها فحسب، على أهميته، ولكن أيضا، وربما الأهم، في نجاح الجماعة عبر عقود في أن تصبح الأكثر تعبيرا عن تكوين المجتمع؛ ففي عضويتها الفلاح والعامل والمهني والأكاديمي ورجل الأعمال، أبناء العاصمة والحضر كما أبناء الريف والصعيد. هذا الميراث الكبير من العمل الوطني والدعوي والاجتماعي يحتاج لكثير من التروي قبل التسرع بإغلاق صفحته تحت ضغط هزيمة نكراء كالتي تعرضنا لها. كما، وبصورة عاجلة، يحتاج للكثير من العمل الجاد المثابر كي يستعيد عافيته.

لا تحمل هذه الدعوة أي إدانة للمبادرات الفردية أو لجهود العمل الفردية والجماعية خارج أطر التنظيم. على العكس، يجب أن تخفف الجماعة من مركزيتها وتشجع أعضاءها وجمهورها على العمل بشكل أكثر استقلالية في بعض المجالات، والتوسع في المبادرات الفردية التي تحقق قدرا أكبر من الإبداع والمرونة وتوفر لمشروع الجماعة نفسه أفقا أوسع وجمهورا أكثر تنوعا. لكن هذه المبادرات مهما بلغ انتشارها ونجاحها لن تمثل في المدى القريب المنظور بديلا عن الجماعة نفسها، ولن تعوض غياب تنظيم عميق بحجم جماعة الإخوان، مازالت جهود العمل السياسي والاجتماعي تستند إليه في ظل حالة الضعف العامة التي يعاني منها العمل السياسي والمدني عموما في مجتمعاتنا العربية التي تغولت عليها الدولة وصادرت منها القدرة على الفعل الحر والتنظيم المستقل. ليست الإخوان ندا للدولة، كما أثبتت التجربة الأخيرة، لكنها بالتأكيد مازالت عاملا أساسيا تحتاج إليه مسيرة التحرر من استبدادها واسترداد المجال العام الذي تمت مصادرته.

ليس ثمة وعد إلهي أو حتمية تاريخية تقتضي بقاء الجماعة إلى الأبد. هذا لا ريب فيه؛ لكن الجماعة تستمد مبرر بقائها من قدرتها على تمثيل استجابة الأمة لمتطلبات وتحديات اللحظة التاريخية التي تواجهها؛ ومن ثم فإن واجب أعضائها، ليس الجدال حول ما إذا كانت هذه هي لحظات النهاية أم لا، وإنما يُنتظر منهم العمل كي يحقق هذا البناء العميق وظيفته ويستعيد فاعليته. ليست هذه مهمة سهلة على أية حال، لكنها ممكنة. وليست هي المهمة الوحيدة التي تفرضها اللحظة الراهنة، لكن ثمرتها المنتظرة تستحق عناء المحاولة.

 

(مدونات الجزيرة)