مقالات مختارة

النزعة الاستبدادية الخطيرة لمحمد بن سلمان

1300x600

للمرة الأولى في التاريخ الحديث، تكتسي الأحداث التي تجري حاليا في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية أهمية قصوى بالنسبة لمستقبل الشرق الأوسط، أكثر من تلك التي تجري في المدن التقليدية الكبرى التي تنتمي لفضاء الحضارة الإسلامية، كالقاهرة وبغداد ودمشق. 
إن التوجه الذي سوف تأخذه السياسة السعودية، سيؤثر في ميزان القوى للواقع الجيوسياسي المستوى الإقليمي، كما تؤثر فيه مواقف الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. لن يعود ممكنا معالجة قضايا رئيسية مثل الديمقراطية في العالم العربي، أو النزاعات المذهبية بين المسلمين بدون الأخذ في الاعتبار موقف الرياض، ولذلك أصبح من الضروري إجراء تقييم كامل لتوجهات وقرارات الرجل القوى الجديد، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.


منذ أن بزغ نجمه في الحقل السياسي، أخذ الرجل على عاتقه إعادة تخطيط وبناء السياسة السعودية، معتمدا على ثلاث ركائز هي: توطيد سلطة الأسرة الحاكمة، وتحديث الاقتصاد، وإعادة توجيه السياسة الخارجية لبلده. وإذا كان قد نجح شيئا ما في مجال السياسة الداخلية، فإن التحديات التي يواجهها في مجالات الاقتصاد وإخفاقاته في السياسة الخارجية قد تضعه في مأزق.

 

لقد تزامن اقتحام محمد بن سلمان للساحة السياسية مع اثنين من التغييرات الهيكلية. أولها ذو طابع بيولوجي: إن النظام الملكي السعودي الذي يقوده حاليا والده الملك سلمان بن عبد العزيز لا يمكنه الاستمرار عبر الخلافة الأفقية للمُلك من أخ إلى أخ من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود. والنتيجة هي ضرورة المرور إلى خلافة عمودية ينتقل فيها العرش مباشرة من الأب إلى الابن. أما التغيير الثاني فهو تآكل إيرادات النفط بسبب تطور سوق الطاقة العالمية، وآليات تحديد أسعار النفط، ما يعني ضمناً تناقص موارد النظام السعودي. 


في الأشهر الماضية، أدت رغبة الأمير سلمان في توطيد الحكم إلى اعتقال مئات المسؤولين المتهمين بالفساد، ومنهم العديد من الأمراء. سابقا، كان نصف قرن من المشهد السياسي السعودي يتسم بوجود إقطاعيات بيروقراطية واقتصادية، يتنافس أفراد هذه النخبة من أجل السيطرة عليها. ولكن انتقال النظام الملكي السعودي من الخلافة الأفقية إلى العمودية، سوف يدفع إلى إعادة ترتيب هذه الإقطاعيات وإعادة تحديد الأولويات، ضاربا عرض الحائط بتراكمات نصف قرن من التقاليد السياسية. لقد اضطر محمد بن سلمان للتعامل بيد من حديد لإضعاف المقاومة الشرسة التي واجهتها إصلاحاته للنظام المؤسساتي، مستعملا نفوذه على أجهزة الأمن وعلى أنصاره في كل المواقع الإدارية والحكومية، وقد استطاع أن يُخمِد تحركات خصومه المحتملين بدون اصطدامات كبيرة.


إن القبض على أفراد من النخبة الذين كان الجميع يعتبرهم أصحاب حصانة، ثم الاستيلاء على ممتلكاتهم، أنتج نوعاً جديداً من الشعبوية. وهذه السياسة الداخلية التي ينهجها محمد بن سلمان تحظى بالشعبية، وقد اتضح أنه المسؤول الأول في الأسرة السعودية، الذي لا يبني سلطته ومَجده على مناصرة الأسرة والعشيرة، بل على نوع جديد من الخطاب الشعبوي. ولكن المشكل هو أن الحكم الشعبوي دائما ما يلاقي مشكلتيْن. أولها أن الحفاظ على السند الشعبي يتطلب إضفاء الطابع المؤسساتي عليه، من خلال آليات جديدة للمشاركة السياسية، وهنا لا يبدو أن ولي العهد مستعد لتقبل مثل هذه المشاركة، بل يظهر أنه يعاكس هذا النوع من التوجه. ثانيها أن الشعبوية، رغم أنها تُضعف سيادة القانون، فإن استمرار الحكم يتطلب شكلاً من أشكال الشرعنة والتأطير القانوني، ولكن ما يبدو هو أن محمد بن سلمان يطبّق سياسته الجديدة على الجميع باستثناء نفسه وهو ما يفتح الباب على جميع أنواع التعسف، خاصة إذا علمنا أن التغييرات التي ينهجها تمارَس في أجواء كلها خطورة.


في الماضي كان الفساد مكلِّفا، ولكن يسهل التنبؤ بحصوله، وكان يسمح للنظام بالاستمرار، من السهل التظاهر بمحاربة الفساد، ولكن الأصعب هو إرساء منطق جديد للحكم بلا قوانين يكتفي باستبدال تعسف بتعسف آخر. إن الانتقال من نظام شبه فيودالي إلى الحداثة يتطلب في البداية نوعا من المركزة السياسية، ولكنه يقتضي أيضا القبول بالخضوع لمساطر وإجراءات قانونية موضوعية، وهو الأمر الذي لا يبدو أن محمد بن سلمان يقبله من الأصل.


إن أحد الأبعاد الخفية لهذا الزلزال السياسي هو إصلاح الفضاء الديني، يحاول محمد بن سلمان مراجعة التحالف القديم بين النظام الملكي والحركة الوهابية، زاعما أنه يريد العودة إلى ممارسة الإسلام الذي كان سائدا في المملكة العربية السعودية قبل عام 1979، وهي الفترة التي يقدمها كنموذج للانفتاح، وهو في الحقيقة يحاول أن يضرب عصفورين بحجر واحد. أولاً لقد أصدرت مراسيم تقلل من سلطة الشرطة الدينية (المطوّعون) متجاوزا بذلك السلطة التقليدية لرجال الوهابيين المحافظين جدا. ثانيا فهو بهذه السيطرة على الخطاب الديني، يلغي فكر الدين الإسلامي المستقل الذي يمكن أن يمثل خطرا في المستقبل، مثل حركة الصحوة. وستواجه هذه السياسة بالضرورة مقاومات جديدة. فهذه التحولات في المجال الديني تأخذ شكل تدخُّل مباشر للسلطة، ولا تعبر عن تعددية فكرية، ولذلك فلا شك أن محمد بن سلمان سيواجه مقاومة التيار المحافظ. هناك على سبيل المثال الترخيص للنساء بقيادة السيارات، وهو إصلاح لا يمنح هذا الحق للنساء مباشرة، بل يكتفي بنقل التخويل لاتخاذ القرار إلى الأسرة. وهذا معناه أن ما فعله محمد بن سلمان لا يتجاوز قلب المعادلة المتعلقة بمصدر الشرعية الدينية. سابقا، كان رجال الدين الوهابيون هم الذين يمنحون الشرعية على سلطة النظام الملكي السعودي، أما اليوم فإن الأمير محمد بن سلمان هو الذي يضفي الشرعية على رجال الدين، وهذا التغيير في مصدر الشرعية الدينية قد يجر الملكية السعودية إلى منزلقات خطيرة، لأنه لا يعبر إلا عن تعددية مزيفة. إلى حد الآن لم تُبْدِ المؤسسة الوهابية مقاومة كبيرة للأمير، ولكن المفارقة هي أن الأصوات التي يتم إخراسها باسم الإصلاح الديني هي بالضبط تلك التي تطالب علانية باحترام التعدد الفكري، مثل حالة الشيخ سلمان العودة الذي تم اعتقاله.


ثم هناك رؤيته لإصلاح الاقتصاد، ولا بد أن نشيد بالمنطق الذي تعتمد عليه، فالأمير محمد بن سلمان هو أول فرد بارز من العائلة السعودية الحاكمة، الذي أدرك أن النظام الاقتصادي المبني فقط على ريع النفط وعلى الإقطاع لا يمكن أن يُكتب له الاستمرار. إن تخفيض الإنفاق العمومي والاستثمار في مجالات غير نفطية يتطلب توفير الكثير من الموارد، وربما اللجوء إلى الخوصصة الاقتصادية، وبعد ذلك إذا تبقّى نظريا شيء من الفساد فلن يكون مكلفا كثيرا، فكما يقول أهل الاقتصاد إن بئرا ضيقة وعميقة تكلف أقل من مستنقع واسع وغير عميق، ولكن هذه الرؤية لكي تنتقل من النظرية لأرض الواقع، على الحكومة السعودية أن تتخلى عن بعض الأوهام مثل، بناء المدن العملاقة في الصحراء. ولكي تنجح عملية فطم الدولة عن عائداتها النفطية، فالحكومة بحاجة إلى التخلي عن بعض العادات القديمة. على سبيل المثال فخوصصة شركة أرامكو يجب أن تهدف إلى إنشاء شركة مستقلة، وليس الحصول على عائدات جديدة سريعة عن طريق بيع الأسهم لأن ذلك لن ينتج إلا الريع النابع من الريع. كما أن سوق الشغل يحتاج إلى تغيير شامل. يجب استبدال نظام الكفالة الحالي بسوق للشغل يعتمد على الجدارة والاستحقاق بدلاً من الانتماء العرقي. وهذا يعني أن السعوديين يجب أن يقبلوا اعتبار الأجانب متساوين معهم في هذه السوق، ويقبلوا تكافؤ الفرص في كثير من المجالات. سوف يتطلب هذا الانفتاح الاقتصادي بالضرورة حدا أدنى من الانفتاح السياسي، وهو ما يبدو أن الأمير محمد يرفض مجرد التفكير فيه. ذلك أن نظام الريع النفطي هو في الأساس قضية سياسية أكثر منها اقتصادية، والمواطنون لن يقبلوا بسهولة تخفيض ما يحصلون عليه من مِنح ومخصصات مالية، أو زيادة في نسبة الضرائب، إن لم يكن هناك من يمثلهم في القرار السياسي. ولا توجد اليوم مؤشرات عن الطريقة التي ينوي اتباعها محمد بن سلمان للتصدي لهذا التحدي الهائل، ولا عن كيفية استيعابه من طرف الملكية كلها.


أما الركن الأخير من إعادة الهيكلة التي تتبناها السياسة الخارجية للأمير محمد، فهي التدخل المباشر لدى الجيران في سعيه لتكون المملكة السعودية قوة رئيسية في المنطقة. في هذا المجال حصد الأمير الكثير من الإخفاقات، وكل تدخلاته تنبع من الشعور بالعدائية البالغة تجاه إيران.


إن التنافس الإيراني – السعودي يعود لفترة الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي أنشأت نظاما إسلاميا ينافس أنظمة دول الخليج العربي. ومنذ سقوط الرئيس العراقي صدام حسين، ازداد هذا التنافس شدة بفعل التوترات الطائفية، التي تعتبر أن إيران هي قائدة الزخم الثوري الشيعي، وأن المملكة العربية السعودية هي الحصن الحصين للعالم العربي السني. هذه التدخلات لم تسفر عن أي نجاح، بل إن الحرب على اليمن لم تفلح في هزيمة الحوثيين، وأدت فقط إلى كارثة إنسانية. أما حصار قطر فلم ينتج عنه إلا إحداث شرخ في مجلس التعاون الخليجي، وتسريع التقارب القطري الإيراني، كما أن محمد بن سلمان لم يفلح في إضعاف حزب الله اللبناني عندما سعى إلى إسقاط الحكومة اللبنانية، ولم يفلح في إقناع السلطة الوطنية الفلسطينية بقبول صفقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المسماة «صفقة القرن». ذلك أن الأمير محمد، عندما يريد ترسيخ وهم الهيمنة السعودية فهو يغفل أمرا مهما للغاية، وهو أنه من أجل مخاطبة الطائفة الشيعية في العالم العربي لا بد من استدعاء هويتها وميراثها الثقافي العربي، بدل تخييرها بين الوفاء لمعتقداتها والوفاء له. ويبدو الآن أن الحكومة السعودية بدأت تفهم هذا الأمر عندما مدت يدها لمقتدى الصدر ولحكومة العبادي في العراق.


هذه التسويات لم تكن ممكنة إلا بفضل التحالف والانسجام بين حكام دولة الإمارات العربية المتحدة وحكام المملكة العربية السعودية. فالإمارات استطاعت استيعاب التكنولوجيا العصرية، وتقنيات الأسلحة العسكرية، لكنها تفتقر إلى الوزن الكافي لحماية مصالحها في الخارج. أما المملكة العربية السعودية فهي تحتاج إلى مهارات وإلى أداء دولة الإمارات، وفي المقابل يمكنها أن توفر المساحة الضرورية للتدخلات في الخارج، ومن هنا نشأت ترتيبات التحالف بينهما: السعوديون يساعدون «دولة الإمارات العربية المتحدة» عن طريق الحصار المفروض على قطر، في حين أن الإمارات شكلت رأس الحربة لجهود السعودية في النزاع اليمني.


ولكن هناك مسألتين أساسيتين ما زالتا فوق طاولة النقاش. أولاً لم تستطع المملكة العربية السعودية إقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بشن هجوم على إيران، التي لا تملك في الوقت الراهن إلا الانتظار أن يقبل محمد بن سلمان في هذه المرحلة ترتيبات وفقا لشروطها. إن السياسة الخارجية السعودية تشوبها سلسلة من الأخطاء في العمليات الحسابية، مثل تلك المتعلقة بالتعامل مع مسألة مدينة القدس. لقد كانت السعودية تخطط للتطبيع التدريجي للعلاقات مع إسرائيل على خلفية تحالفها مع المعسكر الأمريكي – الإسرائيلي ضد إيران، ولكن جاءت مفاجأة الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، فوضعت الرياض في وضع متناقض، لأن التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل مع السعوديين يتم حسب الشروط الأمريكية الجديدة، وقد مضت أيام إدارة الرئيس بوش حيث كانت العلاقات الودية والروابط العائلية تكفي لضمان سياسة متماسكة، وجاء وقت الرئيس ترامب بسياسة جديدة.


إن السياسة الخارجية السعودية في شراكة مع دولة الإمارات تسعى أولا وقبل كل شيء لإلغاء الإنجازات التي حققها الربيع العربي في بلدان مثل ليبيا ومصر، ولكن بدون توفير البديل عن السياسات الاستبدادية التي أفرزت حركات الاحتجاج خلال الربيع العربي. وعندما تضطلع السعودية بهذا الدور التخريبي فهي أصلا ضد الثورات ولا تلعب دور المسانِد للثورة المضادة، فهي تشعر بالحساسية المفرطة إزاء التعبئة الشعبية، وغير قادرة على تقديم إطار أيديولوجي جديد للحكم

 

 

القدس العربي