مقالات مختارة

لا وحشة في قبر رضوى..

1300x600

ثمانية وستون عاما من العطاء الأدبي والثقافي، سافرنا خلالها في رحلة طويلة لنزور الأندلس والقاهرة وفلسطين، ونلملم جراح الماضي، لنبني تاريخا جديدا بعيدا عن الهزائم والانكسارات توقفت برحيلها.

رضوى عاشور الكاتبة والروائية التي مزجت التاريخ بالمتخيل، فكان إبداعا بطعم التراجيديا، "الطنطورية"، "ثلاثية غرناطة"،وغيرها من الروائع التي نسجت أحداثها في ارتباط بوقائع حقيقية ورموز وطنية، فأمتعت في الوصف وأمعنت في السرد وهاتفت العقل العربي برسائل هادفة عن القضية الفلسطينية والمقاومة، وعن سقوط الأندلس وعن الموريسكيين (عرب الأندلس) الذين فقدوها.. لأن النمط الروائي لدى رضوى هو نمط يؤرخ بالضرورة.

ولدت الأديبة والناقدة رضوى عاشور في 26 أيار/ مايو 1946 في القاهرة، ودرست الأدب الإنجليزي، وحصلت على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة القاهرة عام 1972، ونالت الدكتوراه من جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة عام 1975، وعملت بالتدريس في كلية الآداب في جامعة عين شمس، وعملت أستاذة زائرة في جامعات عربية وأوروبية.

ونالت جوائز عدة أبرزها جائزة أفضل كتاب لسنة 1994، عن الجزء الأول من "ثلاثية غرناطة" على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، وترجمت بعض كتاباتها إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية.

ورحلت في 30 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 تاركة وراءها أعمالا فنية وإبداعية لا تنسى.

"الكاتب يتعرف على أوجاعه"

تعبر الكتابة عند رضوى عن أوجاع كاتبها، وتبدأ بالإحساس بأزمة ما فتظهر الرغبة الملحة في الإفصاح عنها، وكأن "جزءا من فعل الكتابة يتم داخل الإنسان، وعلى الكاتب أن يتيح له الخروج. 

وهي بمثابة الحاجة النفسية في محاولة للدفاع عن النفس من مخاوف داخلية، حيث ترى أن "الروايات تطلع مثل العفاريت"، لأنها لا تختار ما تكتب، ولا الوقت ولا المكان، فالرواية لا تختار بل تتعرف عليها، وعلى شخصياتها بشكل مرحلي، فتصبح أشبه باللوحة التي لا يكتمل مشهدها إلا عند الانتهاء من رسمها، فتتجسد صورتها وتظهر أحداثها.

بدأت كتابة القصص والشعر في سن مبكرة، وبنصوص اعتبرتها رديئة للغاية في ذلك الوقت، ثم قررت إنهاء دراستها لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، لتصبح أستاذة جامعية، ثم عادت للكتابة بدافع قديم متجدد فتقول: "كأنني تخلصت من قيود لتعود الرغبة بنفس الإلحاح، فعدت للكتابة".

رضوى التي لا تجيد الكتابة على الكراس بشكلها العمودي، لأنه يسجنها، ولا يمنحها المساحة الكافية تتخذ عرضها حقلا لتبدع على سطورها بما تجود قريحتها، فتعيش الكتابة بمداها الواسع، بكل ما تمنحه لها من حرية وبقدر ما تعطيها من روحها.

الماضي من منظور الحاضر عند رضوى

تميز المقاربة التاريخية أعمالها وتعد خلفية أساسية لها، فهي قارئة للتاريخ وباحثة فيه، وترى أن التفاعل والحراك الاجتماعي سينتج في النهاية تاريخا يجب أن يتناوله الروائي مثل ما يتناوله المؤرخ، وإن اختلفت الزوايا والمواقف من الأحداث التي تشكله، التي ستحدد بالضرورة توجهه وفقا لماهيته ومصالحه وميوله وأفضلياته …

ترى الروائية أن للمسافة التي يتيحها الماضي مزايا، ولكنها تفتقد الى "بنية الشعور لمعايش الأحداث" فهي لا تتعامل مع الماضي بذاته، بل هو مزيج بينه وبين تجاربها ونظرتها له، فيتحول النص "إلى جسر يعقد الصلة بين لحظة في الماضي ولحظة في الحاضر".

وفي حديثها خلال لقاء تلفزيوني سنة ،2003 عن رواية "ثلاثية غرناطة" تقول "كنت مفزوعة وأنا أشاهد الطائرات الأمريكية وهي تقصف بغداد في مطلع شتاء 1991، وكنت في كرب عظيم ويبدو لي أني سأموت.. وأتت للمخيلة صورة بعد عام ونصف وشغلني سؤال الانقراض فبدأت أقرأ عن غرناطة، وكانت بداية الرواية، فاكتشفت "أن كل غرناطة كانت معادة لموضوع ضرب العراق عام 1991".

"من يعترض ع المحبة لما ربّي يريد"

رضوى الكاتبة المبدعة "الممنوعة"، ممنوعة من العديد من الأشياء في بلدها مصر، ففي البداية رفضت أسرتها فكرة زواجها من مريد البرغوثي، لتكون أول مواجهة كسبها الثنائي وتزوجا، وقد أبدع في وصفها..

"قالوا لها ده أجنبي، ما يجوزش بالمرة، قالت لهم يا عبيد اللي ملوكها عبيد،
من أمتى كانت رام الله من بلاد برة يا ناس، يا أهل البلد شارياه وشاريني،
من يعترض ع المحبة لما ربّي يريد"

وفي عهد الرئيس المصري أنور السادات، منع مريد من دخول مصر سنة 1979 بسبب اعتراضه على زيارة السادات إلى إسرائيل، وظل ممنوعا لمدة 17 عاما. 

قرار شتت أسرة الأدبية حيث بقيت رضوى مع ابنها تميم البرغوثي في مصر، وسافر مريد إلى المجر مع منظمة التحرير الفلسطينية، فكانت الرحلات الجوية السبيل الوحيد للقاء.

وفي سنة 2003، اضطر ابنها تميم للخروج من مصر بسبب معارضته للموقف المصري من الغزو الأمريكي للعراق، ومنع من الحصول على الجنسية عن طريق والدته، وكتب قصيدة المشهورة  باللهجة المصرية.

“قالولي بتحب مصر فقلت مش عارف
أنا لما أشوف مصر ع الصفحة بكون خايف
ما يجيش في بالي هرم ما يجيش في بالي نيل
ما يجيش في بالي غيطان خضرا وشمس أصيل"
"عودي يا ضحكتها عودي"

هذا ما كتبه المحب "مريد" لحبيبته "رضوى" عندما اشتد بها المرض، ليأخذ منها ضحكتها بعد إصابتها بورم في الدماغ، بعد علاقة دامت 45 سنة، سنوات كانت بدايتها صدفة في سلم الجامعة في مصر، لترتقي إلى حب لا يقاس بأي درجة في سلم الحياة..

ورغم محاولات المقاومة والتماسك أمام مرض أبعدها عن عائلتها وأدبها، لم تعد ضحكة رضوى، بل ذهبت لترتسم في مخيلة كل من أحبها وتابعها وقرأ رواياتها، فأمست ولم تصبح بعد عمليات متكررة خاضتها في أمريكا..

رضوى الروائية والناقدة والسيدة، زوجة لمريد وأم لتميم، كان رحيلها صعبا على كل من أحبها.. ولكنها تركت أثرا وتاريخا عظيما، فاستلهم محبوها العبارة التي اختتمت بها عاشور رواية "ثلاثية غرناطة" ورددوا "لا وحشة في قبر رضوى.."


رثاها "مريد أثقل من رضوى ما تركتنا له وما تركته لنا
رضوى عاشور تركتنا بعدها لا لنبكي بل لننتصر
تركتكم بعدها لا لتبكوا بل لتنتصروا"

(عن مجلة "ميم"، للاطلاع على نص المقال من مصدره الأصلي اضغط هنا)