قضايا وآراء

الثورة المضادة إذ تنقلب وبالاً على أصحابها

1300x600
كثر استخدام مصطلح الثورة الموجهة والثورة المضادة في الحالة المعاصرة، وبمسميات محببة من قبيل الثورة المخملية أو الثورة البرتقالية يرتبط المصطلح بصورة ذهنية إيجابية في العقل الغربي في غالبا، مقابل ارتباطه أغلب الأحيان بصورة سلبية في العقل العربي، وذلك بالرغم من أن ثورات عصر العولمة تحتكرها في الحالتين جوقة من الصناع واحدة. تباين النظرة صوب الثورة سلبا أو إيجابا يخضع إذا لعوامل اجتماعية وبيئية، وأخرى ترتبط بحبكة سير الأحداث وإخراجها، وثالثة ترتبط بمخرجات الثورة وتداعياتها.

فهي ثورة ناعمة إن وقعت داخل مجتمع غربي، وخشنة إن وقعت فيما عداه من دول الجنوب، وفِي الحالتين يختفي صناع الثورات الحقيقيون وراء الكواليس، وبالمثل من يقع عليهم التنفيذ من أجهزة مخابرات وإعلام وعلاقات عامة في الحالة الغربية فقط، فيما يظهر نظراؤهم التنفيذيون على الملأ جهارا نهارا في حالة دول الجنوب.

ثورات الغرب الناعمة تُهيأ الظروف المثالية لأبطالها الميدانيين لقيادة الحراك والفعل على الأرض، ويتفانى الإعلام في الدعاية لنبل القضية بما يستثير التعاطف معها وبما يؤمن الحشد الشعبي المطلوب؛ وبالتالي تصعيد الضغط على النظام، فيتم استبدال الواقع أو النظام أو المسؤول بعد إنجاز المهمة.

ولأن شعوب الغرب تنتخب، تسمى الثورة الموجهة المصطنعة باسمها ثورات شعبية، يُختار لها لون من ألوان قوس قزح عدا اللون الأحمر المحجوز سلفا لدول الجنوب بسوء نية، مع إسراف آلة الإعلام هناك بالشيطنة، على درب تجييش الرأي العام لثورة دموية انقلابية فجة، تأخذ في الاعتبار تنشئة الشعب على التفويض بالمطلق بدلا من أن ينتخب، ليتصدر الفاسدون بما فيهم السراق وزبانية السوط والكاميرا والقلم مشهد الثورة. ولمزيد من التفصيل يمكن العودة لكتاب عميل المخابرات الأمريكية جين شارب ودليل ثوراته "من الدكتاتورية إلى الديمقراطية".

في الحالة العربية لم يعد الضباط الانقلابيون ذوي الشوارب الكثة يتصدرون مشهد الثورة، فصار مكانهم الصف الثاني لأسباب عديدة؛ أدناها أهميةً أنهم من يتلقى التعليمات والأجر والاستشارات من كفيل الانقلاب، وأكثرها أهمية أن صناعة الانقلابات -أو الثورات المضادة- تطورت لتتطلب من الإمكانات المادية والإعلامية والعلاقات العامة الدولية -قبل المحلية- والعقول ما لا يتاح لطرطور عسكري حظه من اللعبة لا يتجاوز ما يتقنه -أي طاعة الأمر-. ليُفسح المجال بالتالي لدخول مصطلح الدولة الانقلابية على الخط، وهي الدولة -أو الدول- التي تقبل لعب دور المقاول الفرعي بالوكالة نيابة عن مقاول عالمي رئيس يدير كل شيء من وراء الكواليس.

فيتكفل المقاول الرئيس بالمهام النظيفة من تخطيط وتوزيع للأدوار Brain Management تاركا لمقاوله الفرعي ما دون ذلك من المهام القذرة بتداعياتها التي تناسب قدراته، ولو أدت لاحتراق أوراقه وتضرر سمعته وانهيار مصداقيته في نهاية المطاف، وهو أمر منطقي مع افتراض صاحبنا المغفل أن توظيف بضعة مليارات بترودولارت فاسدة في صفقة تآمر أقصر الطرق لنيل حظوة سيده. فلِمَ لا يتصدر مشهد الثورة المضادة في غير بلده؟

مشهد من تجلياته الإسراف في مباهاة مكشوفة ينخرط فيها رموز دول مارقة -في مهام قذرة- من رأس الدولة نزولا إلى من دونه في حضيض المكر والدسيسة وكل ما يندرج تحت وصف الإرهاب من انتهاكات حقوقية، تشكل أجندة عمل رئيسية لوزارات "سيادية" وأجهزة أمنية ودبلوماسية وخدمية، ناهيك عن أبواق إعلام رسمي ومستأجر بكل اللغات واللكنات، محمل بما خف حمله من فتاوى مشايخ السلطان.

وبهم يتسع دور الأنظمة المارقة الإقليمي ليشمل تشريع الانقلابات وتحليل المجازر وجرائم الخطف والتعذيب والحصار والقطيعة وكل نيل من ثوابت الأمة والدين والعرف والأخلاق.

لماذا سُميت ثورة مضادة إذاً؟ لأنها ثورة على الأعراف والثوابت، ولأنها مضادة للشرعية التي يقوم عليها المجتمع، ولأنها مضادة لما يحكمه من قواعد وأخلاق وسياسات ومؤسسات. وبالتالي يتوقف نجاح تلك الثورة على تحقيق هدف تقويض شرعية الخصم؛ إما باستبداله بالكلية أو باستبدال نهجه السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي -كما يرتأي المقاول الرئيس-. والبديل بالطبع جاهز للتحميل في وقته، إما -جبرا أو عبر آلية استفتاء او انتخاب شكلية تضمن التطبيع مع مجتمع دولي يرفع شعار الوقوف بصف الشرعية وإن كانت انقلابية، طالما حققت الشرط الدولي "ولتصنع على عيني".

ولكن هل كل ما في الثورة المضادة سيئ؟ الجواب بالنفي، وإلا لما جمع سم الأفعى الموت والدواء في ناب واحد معا.

وبحسابات الربح والخسارة تبدو الثورة المضادة -بنسختها العربية على الأقل- تضر وتنفع؛ ربحها في كل الأحوال عظيم دائم، بينما ضررها قليل زائل، لأسباب أهمها:

أولا: تواجه الثورات المضادة بدبلجتها العربية تحدي حضور المكون القومي والديني -وأحيانا القبلي- في العقل الجمعي العربي؛ عقلٌ ألِف الحكم الجبري تماما كما عايش تجربة الاستعمار الأجنبي ما تلاه من انقلابات عسكرية بسيطة -قوامها حفنة ضباط بأوامر شرقية وغربية-.

مشكلة الثورة المضادة المعاصرة صعوبة هضم العقل العربي اليوم فكرة الانقلابات المركبة -بدباباتها القادمة من دول استعمارية شقيقة-، مثلما لا يستسيغ أساسا -مهما كانت المبررات- مسلك الاتكاء المفضوح على عدو الأمة اللدود حليفا في مؤامرة الكيد للشرعية وشريكا في شيطنة كل من يقف بصف الشرعية القائمة.

ما لا يعيه دهاقنة الثورة المضادة وعيالها أن معادلة تنامي الشعور الجمعي السابقة هي ذاتها معادلة تآكل شرعية انقلابية تأكل نفسها بنفسها، ليس فقط في وعي مواطني دولة مُنقلب عليها بل وفي وعي مواطني دولة المغامرات الانقلابية ذاتها؛ ثمن يدفعه أيضا المغامرون الذي ساروا في ركاب إجرام الدولة من رموز سياسية وقامات دينية ومجتمعية وكل من اختار الوقوف في الجانب الخاطئ من التاريخ.

وثاني الأسباب يعود لعامل الزمن، ففي العصر الرقمي تسعى كل ثورة مضادة لإنجاز كل شيء في فترة قصيرة، رغم أن تحقيق تغييرات سياسية واجتماعية -مصادمة للواقع- عميقة يتطلب أجيالا يمكنها التطبيع مع هذا الواقع المستحدث على الأقل. هذا الطمع في استعجال النتائج بحرق المراحل -بما يزاود على السقف الموضوع من المقاول الرئيس- نتيجته المنطقية نتائج كارثية أشبه بزلزال يصيب الغير ثم يرتد بوقع أقوى على صاحبه.

وبما أن استقرار الأمور في مرحلة ما بعد الانقلاب يتطلب من الشروط الدقيقة ما يستحيل تحققه بمكر ورصاص ثورة مضادة، تنقلب تلك الثورة كابوسا على كل من ساهم فيها ولو بشق تمرة. ومن بين تلك المستحيلات مصداقية حزمة التغييرات المطلوبة لصالح الخطة الاستعمارية الجديدة، وأهمية الابتعاد عن استفزاز المجتمعات، وبالطبع تجنب الإيحاء بوجود لعبة خارجية وراء حركة التغيير تلك، ناهيك عن تجنب استخدام العنف الذي تراه ثورات من هذا النوع ضرورة لفرض الهيبة وحرق المراحل.

وثالث الأسباب حساسية المزاج العام لاستعمار "شقيقٍ" بالوكالة نيابة عن -من يعتبرهم رجل الشارع العادي- أعداء الخارج، واقتران ذلك بإدراك الشارع حقيقة الأصابع المشبوهة المحركة لثورات مشبوهة ضمن صفقات مشبوهة.

ولك أن تتخيل كيف يعزز إحساس رجل الشارع بالخطرين المحلي والإقليمي مستوى الوعي والتحدي لديه، وما يترتب عليه من إفساد مشروع ثورة فظة دخيلة ثقيلة على واقعه، يعبر عن ذلك الأكاديمي الإماراتي يوسف خليفة اليوسف: "نقد تأخذ تلك الحكومات العزة بالإثم، وتستمر في حرب خاسرة مع شعوبها تدمر بها الحرث والنسل، لكنها في الحصيلة النهائية ستكون أول الضحايا".

ورابعها إن الإسراف في النيل من الثوابت والرموز والأخلاق والأعراف الاجتماعية ومنظومة التربية والتعليم تحت ستار محاربة الفكر المتطرف المؤدي للإرهاب، محصلته الحتمية حشد الناس بوجه ثورة مضادة تهدد وجودهم، ولن يحتاج الأمر لفتوى بوجوب استئصالها برموزها ومن يقف وراءها كواجب وطني حضاري ذي منفعة وخير عظيم.

وخامس أسباب تجمع الخير والشر في ثنايا الثورة المضادة أن المترتب المنطقي على كل سبق هو سقوط هيبة الحلول الأمنية التي يلوح بها المستعمرون الجدد بموازاة فشلهم في كافة الملفات الاجتماعية والحقوقية والاقتصادية والسياسية، لأن الثورة المضادة لا تملك سوى الوعود الزائفة، فهي تأخذ ولا تعطي، لذا لا تترك الكثير للمرء ليخسره، وفضيلتها في إحياء "سُنة التضحية" لدى الناس محمودة كلما أمعنت في تضييق سبل الحياة بوجههم. 

"أن حكومات الثورة المضادة لا تريد أن تعترف بأن جزرتها لم تعد موجودة، وأن العصا المتمثلة في الدماء التي سالت لم تثن التطلعات نحو الحرية" وفقا لليوسف. ومن حفر لأخيه حفرة أو قبرا وقع فيه، وهذا هو عين عدالة مصير الثورة المضادة.