قضايا وآراء

تطويق حماس عبر بوابة كسر الحصار

1300x600
هناك خلط -متعمد أحياناً- بين فكرة إنهاء الحصار وإتمام المصالحة، في الواقع وبالنظر إلى العوامل التي أدت إلى الحصار، ليس هنالك صلة واضحة ومؤكدة بين الحصار وأزمة النظام السياسي الفلسطيني حيث يمكن القول إن الانقسام أتى نتيجة لقرار الحكومة الإسرائيلية بعزل قطاع غزة 1991، أما الحصار فهو سابق للانقسام السياسي بأعوام أيضًا، فلقد تصاعدت شدته إبان فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في يناير من العام 2006، ويمكن القول إن الحصار بدأ فعلياً مع بداية انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر من العام 2000، ورسميًّا بدأ الحصار مع خطة فك الارتباط التي أعلن عنها وأشرف على تطبيقها في العام 2005 رئيس وزراء الاحتلال "أرييل شارون" ضمن خطة شاملة لحكومة الاحتلال شملت قطاع غزة وخمس مستوطنات في شمال الضفة، جاءت خطة "فك الارتباط" بعد أن كبدت فصائل المقاومة الفلسطينية قوات الاحتلال ومستوطنيه خسائر فادحة على مدار سنوات الانتفاضة، وإن أردنا تحديد لحظة فارقة كقفزة نوعية في تشديد الحصار وتوسيع مهامه ضمن الاستراتيجية الاسرائيلية، واجتذاب أطراف عربية للانخراط في فرضه والرهان عليه، فهي يونيو من العام 2013 بالارتباط مع تطورات إقليمية كان مظهرها الأساسي إسقاط الرئيس محمد مرسي، ذلك بعد أن كانت حماس قد نجحت في تفكيك هذا الحصار إلى حد كبير بالاستفادة من تطورات الربيع العربي.

الشق الفلسطيني للحصار:
 
ومع ذلك لا يمكن إنكار الحقيقة التي تقول إن بعض الأطراف الفلسطينية خصوصًا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس أضفى الشرعية على إجراءات الحصار الإسرائيلي خصوصًا بعد الأحداث المؤسفة يونيو/حزيران 2007، حيث عملت السلطة تحت قيادته على توظيف "الحصار الإسرائيلي" لإخضاع حركة حماس لتتخلى عن مقتضيات الفوز بالشرعية التي حازتها في آخر انتخابات فلسطينية، رغم أن أبو مازن وحركة فتح يستمدان شرعيتهما في رام الله بتسويغ من نفس المنبع. بتعبير آخر من المؤكد أن الحصار الذي فرضته "إسرائيل" على قطاع غزة حظي بغطاء فلسطيني من قبل السلطة وأطراف عربية أخرى في إطار معركتها الخاصة مع حركة حماس، إلا أن مصدر القرار وجهة تنفيذه إسرائيلية ولأسباب خاصة بأهداف الاحتلال وأمنه بالدرجة الاولى، وكل ما قامت به السلطة الفلسطينية وبعض الأطراف العربية هي الامتثال للإرادة الإسرائيلية ارتباطا بأجندتها المحلية، كما أن هذه الأطراف الفلسطينية والعربية وخصوصًا أبو مازن يدرك أن أي محاولة جادة لإنهاء الانقسام ستعرضه وسلطته في الضفة إلى عقوبات إسرائيلية، شأنه في ذلك شأن حركة حماس، وبالتالي كان خيار أبو مازن دائمًا العمل على انتزاع ما تبقى من شرعية لحماس في الحكم دون أن يتورط في الوصول إلى مصالحة حقيقية، تجلب عليه وعلى سلطته عقوبات، من خلال إبقاء باب المصالحة مواربًا دون السماح بإتمامها -ساعده في ذلك تشدد الذي قابلته حركة حماس في ملف حقوق الموظفين المعينيين من قبلها -مع طرحه لكل الخيارات التي تخرج حماس من مؤسسات السلطة المنتخبة والمعترف بها دوليًا والتي تؤهلها لمخاطبة العالم، بما في ذلك طرحه لخيار الانتخابات التي يراهن على الفوز بها مستفيدًا من مفاعيل الحصار.

تجري أحاديث كثيرة عن تفاهمات تبرمها حركة حماس مع ما يسمى بالتيار الإصلاحي في حركة فتح بزعامة القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، إذ تأتي هذه الأحاديث في معظمها من أوساط تيار النائب دحلان، والجانب الاشكالي هنا ليس في طبيعة توصيف الحركة للنائب دحلان وصورته لدى قواعدها، ولكن في درجة ملائمة هذا المدخل لحل أزمة الحصار المفروض على قطاع غزة، ناهيك عن تأثير هذا المسار على المشهد الفلسطيني الكلي.

الحصار في ميزان الأمن الإسرائيلي: 

 الحصار المفروض على القطاع أعمق مما قد يصوره البعض، إذ لهذا الحصار أبعاد أمنية واستراتيجية، أهمها على الإطلاق تحقيق الفصل الكامل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، من كافة النواحي السياسية والأمنية والاجتماعية وخلق أولويات مختلفة لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن هنا فإننا نتحدث ومن زاوية النظرة الإسرائيلية الأمنية الحصار جاء كاستجابة للتهديد المتمثل بتنامي قدرات المقاومة، بحيث تكون مفاعيل هذا الحصار إعاقة وإبطال لهذه القدرات، وهو ما يستبعد إقناع الجانب الإسرائيلي برفع الحصار كليًا أو حتى جزئيًا بدون التعامل مع هذا التحدي، علاوة على ذلك، على الأرجح لن يرفع العدو حصاره عن القطاع مالم تلتزم الجهة التي تشرف على إدارة القطاع بإحداث تعديلات على برنامجها السياسي بما يتلائم مع شروط الرباعية الدولية ومن بينها الاعتراف بـ"إسرائيل" وتقديم كافة الضمانات الأمنية لها على غرار ما تطالب به في الضفة وبما ينسجم مع الوضع الجيوسياسي للقطاع.

العنصر الإشكالي هو تجاهل رهان إسرائيل المتزايد على الحصار، في ظل تنامي الحاجة الإسرائيلية لمواجهة تحدي حضور المقاومة كتهديد، ومساعيها لعدم تمكين المقاومة من استخدام سلاحها (نظرية الصدأ)، وصولا إلى محاولة نزع سلاح المقاومة خصوصًا النوعية منها (صواريخ، قدرات دفاعية أخرى) في إطار صفقة خاصة توفر له أكبر قدر من الضمانات الأمنية، بجانب رغبة الاحتلال بالاستفادة من الحصار في رفع فاتورة المقاومة على السكان وابتزازهم باحتياجاتهم المعيشية.

خلط خطير: 

خلاصة القول إن الذين يتوسلون المصالحة كأداة لإنهاء الحصار من المؤسف القول بأن جهودهم على الأغلب لن تصل إلى نتائج عملية، خصوصا أن لهذا الحصار أهدافا استراتيجية وأمنية وعسكرية، ولذلك فلا يمكن أن تشكل المصالحة الأداة الملائمة لتحقيق اختراق في جدار الطوق المفروض على القطاع، ذلك أنه كما ذكرنا أعلاه، فإن تفكيك هذا الحصار له سياق ومتطلبات مختلفة ليس من بينها المصالحة، وإذا كانت ثمة دور للمصالحة في تفكيك الحصار، فإننا نتحدث عنه باعتبارها شرطاً لازماً للبدء بكفاح وطني مشترك للتخلص من الحصار وتبعاته، والمؤكد أن التفاهم مع هذا التيار تحديدًا دون غيره لا يكفي أبدًا كقاعدة لبناء برنامج وطني مشترك يواجه الحصار والاحتلال. إشكالية حصار غزة هي جزء من إشكالية ضعف القدرة الفلسطينية في مواجهة فائض القوة الاسرائيلية التي يشكل الحصار واحدًا من تعبيراتها، فيما يشكل الهجوم الاستيطاني الشرس في الضفة الغربية تعبير آخر لها، بجانب التصعيد المستمر في سياسات الاحتلال تجاه الجمهور الفلسطيني في الاراضي المحتلة عام 1948، والمسعى الدولي الاحتلالي لفرض تصفية القضية الفلسطينية.

باختصار شديد فإن الثمن المطلوب إسرائيلياً ودوليًا هو سلاح المقاومة وبرنامجها ودورها الوطني على مستوى القضية الفلسطينية، أما متى يمكن أن تنهي "إسرائيل" حصارها على قطاع غزة، فإن ذلك مرهون بقدرة المقاومة على أحداث طفرة أو نقلة نوعية في قدرتها العسكرية تخل بالتوازن العسكري القائم، واستعادة الحشد الوطني الفلسطيني جماهيريًا وسياسيًا، هذا المسعى الوطني المضاد، قد تتعزز فرصه، في حال طرأت تغييرات إقليمية عميقة في دول الطوق وخصوصًا على مستوى السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية.

 وبالتالي فإن أي رهان على تفكيك الحصار من خلال أدوات أخرى، كالحديث اليوم عن مصالحة بين كل من حركة حماس وتيار القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان يظل رهاناً مشكوك في جدواه، وإذا حصلت انفراجات على صعيد الوضع الإنساني في القطاع فستظل محدودة ومؤقتة، في مقابل خسائر فادحة على صعيد مستقبل الفلسطينيين وقضيتهم العادلة.

الكل ثمنًا للجزء: 

صحيح أن حركة حماس تمثل قوة مهيمنة لا يمكن أن تضاهيها أي قوة داخل قطاع غزة، وربما على هذا الأساس تناور الحركة اليوم سياسيًا من خلال ابرام تفاهمات مع الجانب المصري ومع تيار محمد دحلان في قطاع غزة، تتمثل في إعادة تأهيل محمد دحلان سياسيًا (غسل صورته) وإعادة دمجه في المعادلة الفلسطينية كطرف بديل ربما عن محمود عباس، مقابل الحدّ من آثار الحصار الخانق على قطاع غزة وربما تجنب حرب عدوانية من قبل الاحتلال.

ولكن إغفال اللحظة والمشهد الإقليمي، يعطي صورة منقوصة ومضللة عن التحديات التي يجب التعامل معها، خصوصًا من طرف قوة المقاومة الرئيسية في فلسطين، والتي تتطلع لريادة المشروع الوطني في هذه الحقبة، وهو ما يخلق خللا في قائمة المهمات ويضع عبء تقرير مصير قطاع غزة على عاتق الحركة، ويبني إشكالا جذري خصوصًا حول شرعية تمثيلها لسكان قطاع غزة في قضية مصيرية على هذا النحو، وكذلك فهو يؤثر سلبًا على قدرتها في أداء مهماتها الوطنية الكبرى المتعلقة بالمواجهة مع الاحتلال ودرء خطر تصفية القضية الفلسطينية المتصاعد حاليًا، الأمر الذي يتطلب تعزيز الشراكة الوطنية مع قوى فلسطينية أكثر جذرية وأخرى أكثر حضور وشرعية من تيار النائب دحلان.

ظروف إقليمية غير مواتية

تأتي هذه الجهود المصرية في ظل ظروف غير مواتية لحركة حماس حيث تستمر محاولات عزلها سياسيًا ووصمها بالإرهاب، وتشديد الخناق على مشروعها النضالي (العسكري في الضفة والقطاع). وعليه وفي سياق إقليمي شديد الاستقطاب على خلفية الموقف من "التهديد الإيراني" و"الإرهاب والإسلام السياسي"، وبسبب تداعيات أزمة حصار قطر ومطالبتها بقطع صلتها بالمنظمات المصنفة إرهابية بحسب القوائم الدولية والأمريكية وبالتالي بدا المقصود في بعض هذه المطالب هو علاقة قطر بحركة حماس وكان قد عبّر وزير خارجية السعودية عادل الجبير صراحة عن ذلك في باريس في الأيام الأولى للأزمة.

هذا يضع قيادة حماس أمام امتحانٍ أخلاقيٍّ وتحدٍّ سياسيٍّ صعب فمن جهة تتعرض دولة حليفة لها كقطر للعقوبات من دول كالسعودية والإمارات ومصر بسبب ما قيل أنه مرتبط بالدعم الذي تقدمه قطر لحركة حماس، وفي ذات الوقت تتلقى حماس عرضا من تلك الأطراف وبوساطة مصرية لتخفيف الحصار وإخراجها من عزلتها بضمانة تلك الأطراف. بشكل ما يمكن قراءة ما يجري من فرض حصار على قطر في مقابل عرض بإنهاء الحصار أو تخفيفه عن غزة بأنها محاولة متقدمة لانتزاع حركة حماس من المحور التركي القطري إذا صحت تسميته محورًا بالمعني الاستراتيجي، تمهيدًا لتفكيك هذا المحور خصوصًا أن من بين المطالب الموجهة لقطر هو اخراج القوات التركية ووقف كل أشكال التعاون العسكري بين قطر وتركيا على الأراضي القطرية.

 إذن نحن أمام سيناريو شبيه بما جرى إبان انطلاق الثورة السورية عندما تم إخراج حماس من المحور الإيراني السوري بضغط العامل الأخلاقي وتدهور الوضع الأمني، كما وقد جرت جهود نجحت في المحصلة النهائية في عملية تفكيك العلاقات بين كل من قطر وتركيا من جهة وإيران وسوريا من جهة أخرى إذ كانت هذه العلاقات المتطورة بين هذه المحاور تمثل مظلة سياسية وشبكة أمان مالية وأمنية وعسكرية غير مسبوقة لحركة حماس وشكلت حماس مفتاحا لهذا التفاهم الذي كان يستقطب مزيدا من الدولة العربية والإسلامية وفي مقدمتهم السودان والجزائر.

الاستهداف الشامل:

ضغوط حصار غزة، هي جزء من هجوم شامل على حركة حماس، وهذه الضغوط لم تولد اليوم لتفرض على حركة حماس تحولات في تحالفاتها وتقييماتها للبيئة السياسية والأمنية والعسكرية، وبصورة ما يمكن اعتبار أن هذه الضغوط لا تنفصل عن محاولات الاستهداف الشامل على كافة الأصعدة، فكما يطال الاستهداف مشروعها العسكري وتجفيف منابعها المالية، فإن قرارها السياسي هو الآخر يظل في مركز الاستهداف وأبرز أوجه هذا الاستهداف هو زعزعة تحالفاتها وإضعاف مصداقيتها وحرف برنامجها السياسي، وشق صفها الداخلي.

إن المقاربات المجتزئة للصراع، والناتجة عن وطأة الضغط الممنهج دون الانضباط بمنطق المقاربة الكلية للصراع الوجودي مع "إسرائيل"، والدخول في منطقة الحلول الجزئية والمؤقتة ذات الترتيبات الأمنية طويلة المدى، يتواءم مع أهداف الحصار الأساسية، ومع المخرج الذي صممته "إسرائيل" والذي تسعى إلى إيصالنا إليه طوال الفترة الماضية، فهي تتجنب السلام الشامل الذي يعني استعادة الأرض والحقوق، كما تتجنب الحرب لأنه لم يعد خيارًا سهلًا أو يمكن ضمان الانتصار فيه، خصوصًا تلك الحروب غير المتناظرة.

إذن هل بات الفلسطينيون وعلى رأسهم حركة حماس باعتبارها رائدة المشروع الوطني الفلسطيني اليوم، على الأقل في جانبها المقاوم، عاجزين عن اجتراح حلول وبناء استراتيجية مضادة في مواجهة الحقائق التي تفرضها "إسرائيل"؟! الواقع يقول إن هناك حلولًا سهلة ولكنها غير مضونة العواقب وهو المسار الذي يكثر الحديث عنه اليوم أي الخلاص "الغزاوي" وهناك حلول صعبة وشاقة وشاملة تخص الكل الفلسطيني وقادرة على إحداث تأثير نوعي في الصراع مع هذا الاحتلال.

خلاصة:

هذه ليست محاولة تنظير ضد استخدام التكتيك أو تنفيذ مهمات مرحلية، ولكن في إطار التسليم بأن الهدف الكلي لمشروع المقاومة في فلسطين هو التحرير وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني، فإن المهمات المرحلية التي يفرضها الهدف الكلي وتشكل تكتيكًا ملائما لتحقيق هذا الهدف، هي الصمود الذاتي لجسم المقاومة، وبناء الكتلة الوطنية الفلسطينية القادرة على تجميع طاقات الشعب الفلسطيني وزيادة ثقله في معادلة المواجهة مع الاحتلال ومنع أسرلة الإقليم، وذلك يستحيل دون بناء التحالفات الضرورية من خلال الحفاظ على الحلفاء الحاليين واكتساب حلفاء جدد، واستعادة الحلفاء القدامى، وحين نتحدث عن الحلفاء فإننا نتحدث عن قوى حقيقية وليس عن مجموعة متمردة أو غاضبة من تنظيمها تدعي لذاتها قدرات إقليمية لا تملكها، وتدفع البعض للرهان عليها كبوابة لحلول لا يمتلك مفاتيحها إلا الاحتلال أو الإرادة الوطنية المجتمعة لمواجهته، وإن كان للنائب دحلان مصلحة في بيع الأوهام فلا يمكن أن يكون هنالك مصلحة لقوى المقاومة في شرائها.