قضايا وآراء

تركيا المئوية الثانية جمهورية أردوغان

1300x600
طوى الاستفتاء الدستوري الأخير في تركيا  صفحة المئوية الأولى للجمهورية، التي تنتهي زمنياً في العام 2023، ولكنها انتهت سياسياً مع مساء 16 نيسان/ إبريل الماضي، وستنتهي فعلياً في تشرين ثاني/نوفمير 2019 مع إجراء الانتخابات الرئاسية البرلمانية وفق الدستور الجديد، حيث ستبدأ مباشرة المئوية الثانية قبل موعدها بأربع سنوات تقريبا.

المئوية الأولى كانت أتاتوركية بامتياز، ويمكن القول أن الجمهورية في مئويتها الأولى كانت جمهورية أتاتورك، علماً أنها شهدت خمس فصول وجمهوريات صغرى، ولكن دائماً ضمن مئوية أو جمهورية أتاتورك.

جمهورية أتاتورك كانت علمانية بوصاية عسكرية في معظم فتراتها، حتى آخر انقلاب عسكري ناجح في أيلول/سبتمبر 1980 الذي وضع مباشرة في الدستور بند حماية الجيش للقيم العلمانية للجمهورية، التي كانت غربية من  الناحية الثقافية والفكرية، حتى لو أرادها مؤسسها أتاتورك محايدة سياسياً وعسكرياً، قبل أن تنضم بعد وفاته وزمن رفيقه وخليفته عصمت أمينونو إلى حلف الناتو، بعد ذلك وتعلن انحيازها أو انضمامها الفعلي للمعسكر الغربي ليس فقط ثقافياً أو فكرياً، وإنما سياسياً وعسكرياً أيضاً.

جمهورية أتاتورك شهدت قطع كامل مع محيطها العربي الإسلامي و جغرافيتها السياسية الطبيعية فى المشرق، ليس فقط في الشام العراق مصر، وإنما حتى مع بلدان آسيا الوسطى ذات الجذور القومية التركية وتجاه العرب، تحديداً كانت الأجواء مغايرة وتتراوح بين الاتهام بالخيانة والتخلف، علماً أن النكبة التي توصف بالثورة العربية الكبرى لم تطعن الخلافة الدولة الإسلامية الجامعة فقط، وإنما أنزلت النكبات والخيبات بأصحابها وبالعرب،  وهي لا تحجب بأي حال من الأحوال جهاد واستشهاد آلاف المقاتلين العرب مع الجيش العثماني طوال تاريخ الخلافة الزاخر بالبطولات والإنجازات والتآخي العربي التركي الإسلامي.

جمهورية أتاتورك بدأت رئاسية برلمانية، ولكن استبدادية قمعية ضمن إطار الحزب الواحد، الذي فرض توجهاته الفكرية الثقافية التاريخية السياسية الاقتصادية الاجتماعية بالقوة الجبرية القهرية على الشعب، وتحولت بعد ذلك إلى ديموقراطية برلمانية أكثر مع وصاية للعسكر على كافة مناحي الحياة، وامتلاك الحق بالتدخل كلما رأوا ذلك مناسباً من وجهة نظرهم ومصالحهم مع إعطائهم أنفسهم الحق بالولاية والوصاية على الدولة والشعب، كانوا فعلاً سادة على الشعب وليسوا خدماً له مثلما يحلو للرئيس أردوغان القول دائما.

جمهورية أتاتورك كما قلنا انفاً شهدت خمس فصول أو جمهوريات صغرى طوال تاريخها، واللافت أنها كانت دائماً ما تبدأ ديموقراطية وتنتهي مع  انقلابات عسكرية ناجحة، خشنة فظّة صريحة أو ناعمة وهدائة، وهي إضافة إلى جمهورية أتاتورك الأولى – الاستثناء في قصة الديموقراطية والتعددية - أو الفصل الأول من تاريخ المئوية الأولى جمهوريات إيمينونو - مندريس التى انتهت  بانقلاب 1960 وجمهورية أجاويد - أربكان التي انتهت بانقلاب 1980 وجمهورية أوزال - أربكان إلى انتهت بانقلاب 97 الناعم ثم جمهورية آل أردوغان التي انتهت فعلياً بالانقلاب العسكري الفاشل في تموز/ يوليو 2015، والذي كان  فشله سبب من أسباب طي صفحة المئوية الأولى جمهورية أتاتورك والتمهيد للانتقال إلى المئوية الثانية، التي ستكون إلى هذا الحد أو ذاك جمهورية أردوغان.

المئوية الثانية ستكون جمهورية اردوغان اذن وهى ستكون علمانية كذلك، ولكن دون العداء للدين أو الأديان وتحديداً المعايير والقيم الإسلامية للشعب للتركى ستكون علمانية وفق تفسير الرئيس أردوغان ورفاقه في حزب الحرية والعدالة العلمانية، التي تقف على مسافة واحدة من الأديان، حيث تعطى الدولة الحق لكافة أطياف المجتمع بالتعبير عن نفسها.

الجمهورية الثانية ستكون متصالحة منفتحة على نفسها على شعبها ومحيطها، وستجد الطريقة المناسبة  لبناء جسور التواصل مع عمقها التاريخى ، التخلص من فكرة أنها بدأت فى العام 1923، وستتوقف عملية القطع مع الجذور التاريخية الضاربة عميقاً والتى تصل الى الف عام كما يحلو أيضاً للرئيس اردوغان القول دائما.

الجمهورية الثانية ستكون ديموقراطية تعددية ورئاسية وستكون حتماً تعديلات دستورية لاحقة، وصولاً إلى كتابة دستور جديد كامل، وربما حتى تتم مناقشة العودة إلى النظام البرلماني بطريقة ما، ولكن ستكون حرية حريات ثقافية فكرية اقتصادية اجتماعية، لن يتم النيل من حريات او معتقدات الناس في أبعادها المختلفة والحرية الاقتصادية؛ ستكون مكفولة ومصانة من أجل مصلحة الناس والبلد على حد سواء.

الجمهورية الثانية لن تقطع الصلات مع الغرب لا الثقافية، ولا الفكرية، وسيظل الانضمام للاتحاد الأوروبي هدف استراتيجى، ولو على المدى المنظور، وفي المراحل الأولى منها، ولكنها ستكون منفتحة أيضاً على محيطها العربي الإسلامي، وستستعيد اسطنبول صلاتها التاريخية الثقافية الفكرية الاقتصادية الاجتماعية مع شقيقاتها القاهرة دمشق بغداد الموصل حلب مكة والمدينة.

الجمهورية الثانية لن تشهد اى انقلابات عسكرية التى طويت صفحتها فعلاً مع المشهد الجماهيرى المهيب فى 15 تموز يوليو 2017 ولن تكون وصاية للعسكر لا على الساحة السياسية ولا على الحياة فى مناحيها المختلفة الثقافية الفكرية الاقتصادية والاجتماعية، وكما فى أى دولة ديموقراطية ستخضع المؤسسة العسكرية للقيادة السياسية المنتخبة ، دون ان ينال ذلك طبعاً من مهنيتها وانضباطها وتقاليدها العريقة السابقة حتى لتأسيس الجمهورية المعاصرة قبل قرن تقريبا.

الجمهورية الثانية لن تكون خاضعة لوصاية الغرب السياسية أو العسكرية، حتى مع عضويتها فى حلف الناتو، وستكون حرة مستقلة وتدافع عن مصالحها القومية حتى لو تعارضت مع مصالح الحلف أو القوة الأبرز فيه أى الولايات المتحدة، وستفكر طبعاً بعقل تاريخي جمعي بعيدا عن التفكير الاقلوى الانعزالى فى المنطقة بشكل عام وسورية والعراق بشكل خاص.

في الأخير وباختصار سيترك الرئيس أردوغان وحضوره بصمته على المئوية الجمهورية الثانية، تماما كما فعل اتاتورك مع المئوية الجمهورية الاولى، وكان اردوغان نفسه اختصر القصة كلها عند تأسيس حزب الحرية والعدالة بمقولته الرائعة"سنبنى المجتمع العصري المتطور الذى دعا اليه اتاتورك دون القطع او النيل من المعاير والقيم الاسلامية للشعب التركي" العبارة التى ستتم ترجمتها فى الداخل والخارج على حد سواء.

• باحث وإعلامي فلسطيني