مقالات مختارة

شبح شبه الدولة يلوح في الأفق

1300x600
تغول السلطة المصرية ونزوعها إلى إضعاف المجتمع يحقق نبوءة «شبه الدولة» ويكاد يدخلها في طور آخر.

(1)

في شهر يوليو من العام الماضي (2016) أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي قرارا بقانون خوله حق عزل رؤساء الهيئات الرقابية والأجهزة التي نص الدستور على استقلالها. وحين عرض القانون على قسم التشريع بمجلس الدولة، فإن خبراءه غضوا الطرف عن المخالفة الدستورية، ومن ثم أجازوه، الأمر الذي مهد الطريق أمام تمريره وتأييده لاحقا من مجلس النواب. ورغم أن منطوق القانون كان يطلق يد الرئيس في تقرير مصير رؤساء تلك الهيئات (البنك المركزي والهيئة العامة للرقابة المالية والجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية)، إلا أن الجميع كانوا يعرفون أن المستهدف به في تلك اللحظة هو المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات الذي كان قد رفع عنه الرضا، وتمت استباحته إعلاميا لأن أداءه أزعج أطرافا في السلطة فوق الحساب والمساءلة، ولم يخب ذلك الظن لأن النية المبيتة سرعان ما أسفرت عن وجهها. إذ لم تتم الإطاحة بالمستشار جنينة فحسب، وإنما فصلت ابنته أيضا من وظيفتها في النيابة الإدارية.

كان قرار العزل هو الأول من نوعه في تاريخ جهاز المحاسبات، وقد أحدث صدى محدودا في أوساط النخبة المصرية، إلا أن الموضوع نسي بمضي الوقت، ولم يتوقف أحد عند ملاحظة مخالفة الدستور، وتوظيف القانون للاعتداء عليه واختراق الحصانات التي وفرها لتمكين مؤسسات الدولة من القيام بمهامها في حماية المجتمع. أخيرا، في 28/4 المنتهي، حين صدر القانون الذي خوَّل الرئيس حق تعيين رؤساء الهيئات القضائية من بين ثلاثة ترشحهم الجمعيات العمومية، كتب أحد المدونين تغريدة قال فيها: أكلت يوم أكل هشام جنينة (في محاكاة للتعبير الشهير «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»).

(2)

حين أنشأ الخديوي إسماعيل أول مجلس للوزراء في البلد (في أغسطس عام 1878) فإنه سمي «مجلس النظار»، لأن مصر آنذاك كانت ولاية عثمانية، وكانت الوزارات ضمن تشكيلات الدولة الرسمية في استانبول. أما القائمون على الولايات فقد كانوا مجرد «نظار» يتولون الإشراف على مجريات الأمور المحلية في ضوء السياسات العليا التي تقررها عاصمة السلطنة. ولم يعرف مصطلح الوزراء في مصر إلا حين انفصلت عن دولة الخلافة من الناحية الرسمية بإعلان بريطانيا حمايتها عليها في عام 1914.

منذ ذلك الحين نما جهاز الإدارة في مصر، وتجاوز كثيرا حدود «السياستنامة» التي وضعها محمد على باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر ووزع بمقتضاها أنشطة الإدارة العامة للدولة على سبعة دواوين. واقترن نمو جهاز الدولة بعاملين برزا بمضي الوقت. الأول أن نمو أجهزة السلطة توازى مع تراجع وإضعاف مؤسسات المجتمع الأهلي (المدني بلغة هذا الزمان)، وعلى رأسها نقابات الطوائف التي كانت تضم أصحاب المهن والطرق الصوفية التي أدت دور الجمعيات والأحزاب، والوقف الذي كان يمول النشاط المجتمعي. العامل الثاني تمثل في غياب السلطة التشريعية التي تنهض بمهمة مراقبة أداء أجهزة الدولة وتكبح جماحها. وهو ما أدى إلى انفلاتها وتغولها، بحيث صار الحاكم له شرعية الحكم وشرعية التدخل في شئون الجماعات والأفراد. ومن ثم أصبح هو ذاته من يحدد الإطار المرجعي لشرعية تصرفات نفسه وقراراته وتشريعاته (طارق البشري ــ جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر).

الدكتور جمال حمدان في مؤلفه «شخصية مصر» ذهب إلى أبعد في تحليله لتاريخ تحكم السلطة في مصر. وهو ما أشرت إليه في وقت سابق. إذ بحكم اختصاصه كأستاذ في الجغرافيا السياسية فإنه أرجع الأمر إلى دور نظام الري النهري في إنتاج ما أسماه «الطغيان الفرعوني» ــ ذلك أن قيام الفرعون على توزيع المياه للري جعله لا يتحكم فقط في ضبط النهر وإنما في ضبط الناس أيضا. وهو ما حول مصر إلى «ضيعة كبرى للحاكم». وصارت الدولة الفرعونية نظاما ديكتاتوريا مطلقا أبعد ما تكون عن الديمقراطية. لذلك ليس صدفة أن مصر الفرعونية لم تشتهر بقانون كبير ولم يعرف فيها إنجاز قانوني له شأن، من مثل حمورابي أو الرومان.

أضاف الدكتور حمدان أن الحكم الأوتوقراطي المطلق أدى وظيفته في البداية، حيث وضع أسس الحضارة المصرية وأرسى دعائمها، غير أنه لم يلبث أن تعدى نفسه إلى القهر السياسي والاجتماعي. «لقد انبثقت الدولة عن المجتمع لكنها وضعت نفسها فوقه»، ومن ثم فإنها تحولت من قوة قهر إلى قوة بطش. ولخص فكرته في قوله إن الطغيان الفرعوني جاء نتيجة حتمية للدولة المركزية. وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية (التي تعتمد في الزراعة على فيضان النيل). وفي النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة. فتضاءل حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم، وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب.

(3)

كأن الدكتور جمال حمدان كان يحلل أوضاع مصر المعاصرة. وهو ما لم يختلف معه المستشار البشري الذي أفرد فصلا تحت عنوان «علم الاستبداد والطغيان» في مؤلفه «مصر بين العصيان والتفكك» الذي طبع عام 2016، كما أفرد فصلا آخر تولى فيه تشريح ما أسماه «شخصنة الدولة»، بمعنى ربط مصيرها بإرادة شخص أو فئة ضيقة منغلقة على ذاتها. وتلك مفاتيح مهمة لقراءة الكثير من صفحات الماضي والحاضر في مصر.

في الوقت الراهن، فإننا نلحظ ظواهر ثلاثا موصولة بتلك الخلفية هي:

< اختفاء دور المؤسسات المستقلة الذي يتجلى في صور عدة. بينها الإبقاء على وجودها مع التحكم في إدارتها بما يحقق إلحاقها عمليا بالسلطة التنفيذية. منها أيضا استمرار الإبقاء عليها مع نزع اختصاصاتها بما يؤدي إلى تفريغ وظيفتها من مضمونها. منها كذلك الحفاظ على وجودها القانوني للحفاظ على الشكل الديمقراطي، ثم إنشاء مؤسسات موازية تابعة مباشرة للسلطة تقوم بمهامها.

< استخدام سلطة التشريع لتقنين الإلحاق وتشديد قبضة السلطة، من خلال النص على انفراد رئيس الدولة باختيار ليس فقط أركان وقيادات السلطة التنفيذية التي يرأسها، وإنما أيضا تعيين رؤساء المؤسسات «المستقلة». بما يلغي دور قواعد المجتمع في اختيار القيادات التي تمثلها في مختلف مكونات الدولة. وبطبيعة الحال فإن الدور الحقيقي في الترشيح والاختيار لتلك الشريحة الواسعة من القيادات تقوم به الأجهزة الرقابية والأمنية، ويظل دور رئاسة الدولة مقصورا على الترجيح بين من ترشحهم تلك الأجهزة. وهو ما يعني أن تلك الأجهزة الرقابية والأمنية تصبح بمضي الوقت هي الجهة المهيمنة على المجال العام.

< الظاهرة الثالثة في السياق الذي نحن بصدده تتمثل في أن النزوع إلى التحكم في مصائر المجتمع يؤدي إلى الانتقال التدريجي من فكرة الدولة إلى صيغة السلطنة. والدولة تقوم على المؤسسات ويحكمها القانون، والسلطنة محورها شخص السلطان وتديرها أذرعه المختلفة التي تأتمر بأمره وترهب المجتمع بصولجانه. وهو مآل يقربنا من حالة «شبه الدولة» التي جرى الحديث عنها أخيرا في مصر إلا أنها حالة لا تنصرف إلى الماضي، لأنها تصنع على أيدي القائمين على الأمر في الحاضر وتلوح ضمن خيارات المستقبل.

(4)

ما نشهده في مصر هذه الأيام يقدم ما لا حصر له من النماذج التي تدلل على صحة ما أقول. خصوصا ما شهد به الدكتور جمال حمدان عن العلاقة العكسية التي بين السلطة والمجتمع بحيث يتضاءل حجم الشعب ويصغر حجمه، كلما تضخم وزن الحكومة. ويكاد مجلس النواب يكون التجسيد الأوضح لتلك الحالة. إذ في حين يفترض أنه من الناحيتين القانونية والسياسية بمثابة مجلس الشعب المنتخب، إلا أن التجربة العملية أثبتت أنه مجلس الحكومة بامتياز. ومن ثم صار وجوده تعبيرا عن تضخم حجم الحكومة وتضاؤل حجم الشعب.

الحاصل مع القضاة نموذج آخر، ففي حين كان التقليد المتبع أن الجمعيات العمومية هي التي تنتخب رؤساءها وفقا لأعراف مستقرة منذ عقود، فإن القانون الجديد ألغى دور الجمعيات العمومية وجعل رئيس الجمهورية هو من يختار أولئك الرؤساء من بين ثلاثة ترشحهم الهيئة المعنية. وبدلا من أن تنتخب الجماعة الصحفية رؤساء المجالس التي تدير المهنة، فإن الرئيس صار من يقرر تشكيل تلك المجالس ويختار رؤساءها، وقرأنا أخيرا مشروعا مريبا لتعديل قانون الأزهر يوسع من اختصاص الرئيس في إدارته، فهو يعين شيخ الأزهر، كما يعين إمام وخطيب الجامع الأزهر، ويعين خمسة من أعضاء المجلس الأعلى للأزهر ويعين الأمين العام لهيئة كبار العلماء. وما اقترح للأزهر سبق تطبيقه في الجامعات، ذلك أن تعيين عمداء الكليات الذي كان يتم بالانتخابات تم العدول عنه، وأصبح التعيين يتم بقرار من رئيس الجمهورية.....إلخ.

ذلك كله يحدث في مؤسسات وهيئات يفترض أنها «مستقلة»، مجلس النواب والقضاء والأزهر والإعلام والجامعات وصولا إلى الجهات الرقابية. وكل ذلك التغول يتم بالقانون الذي أصبح إصداره خاضعا في كل مراحله لنفوذ السلطة ووصايتها المباشرة. النتيجة أن «هذا البلد بملايينه من البشر، بزراعته وصناعاته واقتصاده وبخبراته العلمية والفنية والثقافية، ونظم إدارته الحديثة وأجهزته الإدارية والأمنية والسياسية، وبمؤسساته وجامعاته ومدارسه، هذا البلد بكل سعته وتعدده وتنوعه وشموله وتراكم خبراته أصبح ينحصر ويلملم لتمسك به قبضة رجل واحد. لكن قبضة الرجل الواحد على رقبة ذلك الجسم الكبير لا تمسكه وإنما هي تخنقه وتميته» (طارق البشري في كتابه «مصر بين العصيان والتفكك»).

إن التحدي الكبير الذي بات يواجه مصر الآن يختصره السؤال التالي: كيف ننقذ مصر من مصير شبه الدولة الذي تنزلق نحوه حينا بعد حين؟

الشروق المصرية