قضايا وآراء

تدوينة تركية من غزة .. بعبق الشهداء

1300x600
حضرت ذات ليلة حفل تخرج في الجامعة الإسلامية في غزة، استمعت إلى قصص نجاح الطلاب الذين كانوا في المرتبة الأولى في الكلية، وفي كل قصة لا يمكنك السيطرة على دموعك، فتشعر بالقوة، وأنك ستسعى بالبدء في الكفاح، وإحدى هذه القصص كانت قصة "ناهد الفقهاء" زوجة الشهيد مازن الفقهاء الذي استشهد في ليلة 24 آذار/ مارس للعام 2017م.

قبل سبع سنوات جاءت "ناهد" إلى غزة مع زوجها الذي أُبعد إلى غزة بعد صفقة "وفاء الأحرار"، وقالت إنها لم ترَ جميع أفراد عائلتها منذ أكثر من سبع سنوات، وقالت إنّ مازن أمضى عشر سنوات في سجون الاحتلال، وبعدها حصل زوجها على حريته. والأشقّ من ذلك أنّ زوجها عندما كان في السجن، فإنهم كانوا بعد كل حكم قضائي يحكمون عليه بسنوات أكثر، وقد كان مجموع العقوبة الكلي هو تسع مؤبدات.

هل يمكن لأي امرأة أن تتخيل نفسها في مثل هذا الوضع، في حين أنّ زوجها يناضل من أجل أرضه وشرفه بعد وقوعه في أيدي الطغاة وتحمل تسع مؤبدات، فكيف ستكون نفسيتها، هل تعتقد أنه باستطاعتها القول لنفسها: هل لا يزال عندي أمل؟! وهل تتصوّر مستقبلها؟!

بينما كانت "ناهد" تتحدث عن قصتها، أخذت تمسح دموعها من وقت لآخر، وهي ممتنة لوجود طفلين جميلين لها ولوجود حياة جميلة في غزة، فقد أرادت أن تدعو زوجها وحبيبها الرائع على منصة التكريم، ففي كل جملة لها، كانت تتحدث عن إعجابها به، وكيف نضجت على يد هذا الرجل الجميل، فهو أعظم مؤيد لها طوال حياتها. وفي ذلك الوقت؛ صعد زوجها إلى المنصة، حاملاً نظرات كنظرات الصقور، مع وقفة احترام شابكاً يديه ببعضهما البعض تقديراً واحتراماً لكل الحضور الذين كانوا في الحفل، وطوال مدة كلمة زوجته "ناهد"، كانت ابتسامة الشهيد مازن الفقهاء مرسومة على شفتيه ظاهراً للحضور هيبته وهو يحيي حضور الحفل أثناء كلمة زوجته.

في نهاية كلمتها طلبت "ناهد" من كل الأمهات المتواجدة في مراسم الحفل أن تطلق الزغاريد لها نيابة عن والدتها، فزغرودة النجاح هي من أروع مظاهر الاحتفال فكيف لا، وهي من التقاليد الفلسطينية، وفي تلك اللحظة، أردت أن أقول لها: "انظري لقد جئت أنا من تركيا أيضاً، وليس لدي أي فرد من أفراد العائلة هنا، وإن كنتِ لا تمانعين فسأكون لك أختاً"، ولكنني لم أستطع قول هذا لها بسبب الحضور الكبير والتقاط كثير من الصور الذاتية معي، فقد غادرت الحفل قبل انتهائه.

لم يمض وقت طويل بعد هذا الحفل، فبعد بضعة أسابيع فُجعنا بخبر شهادة مازن الفقهاء، فقد كانت مشاعر الحزن التي شعرت بها لا توصف وكأنني قد فقدت شخص ما من داخلي، في الحقيقة لم يكن استيائي بسبب فقدان الشخص نفسه، لا، بل كنت حزينة على الأمة الإسلامية، فهذا الرجل كان يذكرنا بوعده الذي قطعه لله تعالى، والآن قد جاء دورنا لنفهم هذه القيم.

والآن دعونا نرى هل سنكمل هذا الطريق المبارك أم لا؟! بعدها في اليوم التالي ذهبت إلى "ناهد"، وبعد صلاة العشاء اجتمعنا في بيتها، وبصراحة مباشرة قلت لها: "انظري! لديك شقيقة من تركيا، وقد جئت لأقول لك هذا". وبعدها اغرورقت عيناها بالدموع، وقالت لي: "في تلك الليلة كنا نريد أن نقول لك نفس هذا الشيء، ولكن بسبب ازدحام الحضور لم نستطع، وقد شاء الله أن تكوني أنت التي قلت هذا في غياب مازن". ثم بدأت دموعي تنهمر، ولكن بالنسبة لناهد لم تكن لها أي ردة فعل، فقد كانت هي قوية حقاً، وكنت أتساءل من أين لها هذه القوة؟!. قطعاً لم يكن لديّ أدنى شك في أن هذا الصبر هو من عند الله، ولكن بالفعل كنت مندهشة، مما زاد الأمر إيماني أكثر وأكثر. وقد كان حقاً هذا الموقف الثابت موقف ملوكي وراقٍ لامرأة فقدت معلمها ومحبوبها في هذه الحياة. بصراحة، هذا الموقف الملوكي لا يُمنح لكل النساء اللاتي يواجهن فاجعة موت محبوبهم.

ومن ثم تناولت ناهد منديلاً مشبّعاً بالدم لكي أشتمّه، ولكنني لم أفهم القصد والبعد من وراء ذلك، ولكنه كان يوجد بُعد عميق مختلف بداخلي لهذا الشيء، فهذا الدم كان دم الشهيد مازن الفقهاء، وأقسم باسم خالق هذا الكون أنّ رائحة الدم كانت من أجمل الروائح التي استنشقتها طوال حياتي.

في المرة الأولى لم أفهم لماذا طلبت منِّي أن أشتمّ المنديل المخضّب بالدم، ولكن بعد ذلك شممت رائحته مرة أخرى، وفي هذا الوقت بدأت ناهد تفسِّر لي أسرار الشهداء، وحينها لم أتمكن من السيطرة على دموعي، ثم تناولت المنديل لأخذ البركة منه.

سبحان الله! أي حياة شريفة تكون هذه في الوقت الذي تكون شهادة مازن مباركة وثمينة.

في كل مرة، يسألونني: "كيف استطعتِ ترك الحياة في تركيا وجئت إلى دراسة الماجستير في غزة؟"، في تلك الليلة أجبت على هذا السؤال لناهد، وها أنا ذا سأشارككم الإجابة أنتم أيضاً:  "إذا كنتُ قد شهدت مثل هذه الأجواء الرائعة في حياتي، وإذا كانت لديّ ألف فرصة وفرصة لأن أكون هنا، وفي كل فرصة ألف أخرى؛ فأنا سأختار أن آتي إلى غزة".

حقيقةً؛ أنا لا أعرف في أيُ بعد أكون الآن! وما لي سوى أن أسأل الله بأن يرزقني بشريك لحياتي مثل الشهيد مازن الفقهاء، شخص يحارب ببسالته وبإيمانه طوال حياته ضد جميع أنواع الاضطهاد. وأنا أعلم جيداً أنّ الطريق المبارك غير المنتهي الذي مشى عليه كل من محمد الفاتح وصلاح الدين الأيوبي؛ هو الطريق الذي سيمنح البشر القيم والحقوق كافة. أسأل الله أن يجعلنا السابقين إلى هذا الطريق المبارك، وأن يساعدنا على الحفاظ على الوعد الحق.

قال تعالى: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الآية 23 الأحزاب