قضايا وآراء

هل نحن بحاجة لعلمانية عربية؟

نبيل البكيري
1300x600
1300x600
بعد أكثر من نصف قرن من قيام الدولة العربية الوطنية القطرية، والتي نحن على وشك فقدانها وانهيارها اليوم، يتبادر إلى الذهن سؤال مركزي وهو ما طبيعة هذه الدولة وهل فشلت صيغة الدولة القطرية وهل كانت هذه الدولة القطرية علمانية التوجه والفلسفة وهل ثمة علمانية عربية وفي حال وجودها لماذا فشلت العلمانية في السياق العربي.

باعتقادي الحديث عن نشأة الدولة العربية القطرية التي نشأت مع منتصف القرن العشرين الماضي مع رحيل المستعمر الأوروبي، كانت عبارة عن نتيجة طبيعية لمرحلة الاستعمار الذي اضطر للخروج على وقع ثورات عربية مسلحة ضده تم احتوائها بنخب عربية تربت في إطار المؤسسة الاستعمارية الحاكمة حينها ومتشربه بأفكار وتصورات المستعمر الذي كان حريصا كل الحرص أن يسلم تلك الدولة لتلك النخب ذات الرؤى والتصورات الغربية حول مجتمعاتها الوطنية.

خرج المستعمر منهزما وخاسراً بعد عقود طويلة من العمل على علمنة المجتمعات المستعمرة قسريا، دون الالتفات لطبيعة وسياقات هذه المجتمعات الثقافية والسياسية والدينية، ولكنه حينا عجز المستعمر عن أحداث تلك العلمنة القسرية وتفاجأ بنتائج عكسية مخيبة للأمل، حاول تغير قواعد اللعبة بتسليم دفة إدارة دولة ما بعد الاستعمار للنخبة التي تخرجت من مدارس الغرب وأكاديمياته ومؤسسات دولة المستعمر لاحتواء الثورات والالتفاف على الطليعة الثائرة التي قدمت التضحيات وناضلت طويلا للتحرر من الاستعمار ومخلفاته.

من بين هذه الاعتمالات انبثقت فكرة العلمنة في السياق العربي، تلك العلمنة التي لم يكن لها أي مبرر موضوعي أو هدف وطني او علمي أو تنويري سوى الأداء الوظيفي لما رسمه المستعمر وفرضه قسرا على هذه المجتمعات، وبالتالي رأينا كيف بدأت أولى مأزق الصراع بين الطبعة الحاكمة ومجتمعاتها المحافظة التي كانت تتوق للتحرر والحرية لا للاستبداد الفكري والثقافي الذي مورس ضد لطبيعة هذه المجتمعات المحافظة وتوجهاتها الثقافية.

وبطبيعة الحال هذا لا يعني أن الفكرة العلمانية التي استخدمت مادة للصراع، كانت تمثل إشكالية صراعية بين الطرفين بقدر ما مثل التوظيف السياسي القمعي للفكرة وتحويلها إلى شماعة لتصفية الحسابات وممارسة القمع والإكراه تحت رداء علمنة الدولة والمجتمع، الذي لم يكن لديه إشكالية مع العلمانية كسياق تطور طبيعي لتحول المجتمعي وسيره نحو الحداثة السياسية والمؤسساتية والثقافية التي لا تعني هي الأخرى بحال من الأحوال الصدام مع ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده.

وبالتالي، وهنا المأزق الكبير هو عدم التفريق بين السياقات المجتمعية التي جاءت منها وبسببها الفكرة العلمانية ابتداءاً في الغرب وكيف هو وضعها في الشرق الإسلامي، وعدم الفهم هنا هو الإشكالية الكبيرة التي أدت لحالة من الصدام و العداء تجاه الفكرة العلمانية مجتمعيا، بالنظر إلى أن الإشكال الغربي تجاه العلمانية جاء لتحرير الدولة من هيمنة الكنيسة على عكس الإشكال القائم في الحالة الإسلامية وهو تحرير الدين من قبضة الدولة والنخبة الحاكمة التي حولت الدين إلى عصى غليظة بيدها تقمع به خصومها وتدجينه كفكرة تحرريه ضد الاستبداد والقهر والظلم.

باعتقادي أن عدم فهم هذه الفكرة والاختلاف بين السياقين الغربي والعربي الإسلامي هو منشأ كل الأخطاء التي ترتب عليها فكرة الصراع العبثية في الحالة العربية فيما يتعلق بالنخب العلمانية التي أرادت نقل الفكرة العلمانية إلى الحالة العربية وبطريقة لا تستقيم مع ظروف وملابسات السياق الغربي وصراعاته الكبيرة من أجل تحرير الدولة من قبة الكنيسية التي أطلق لأجلها شعار الثورة الفرنسية الشهير " اشنقوا أخر ملك بأمعاء آخر قسيس" في دلالة واضحة على أن الإشكال الغربي قائم بين الكنيسة التي تحتكر الدولة وتسخرها لمنافعها وبين الشعب عامة الذي تحول إلى سخرة للكنيسة ومصالح رهبانها.

ومن هذا المدخل، يمكننا اليوم فهم مأزق النموذج العلماني الفرنسي، شديد التطرف تجاه التدين عموماً، بعكس النموذج الأنجلوسكسوني الذي لا يحمل نفس القدر من الصرامة تجاه فكرة الدين عموماً، بل أيضاً لا يوجد عنده مشكلة في استمرار فكرة السلطة الزمنية والدينية مرتبطة بشخص الملك كما هو بالحالة البريطانية التي تتمتع بها الملكة بالصفتين الزمنية والدينية كملكة لبريطانيا وممثلة للكنيسة الانجليكانية أيضاً.

أما دور الكنيسة في الحالة الروسية فهو الأكثر وضوحا من غيرها، حيث لم يصعد الرئيس الروسي الحالي فلادمير بوتين للرئاسة إلا بمباركة كبير بطاركة الكنيسة الأرثدوكسية وتعميده لهذا الصعود و دور الكنيسة الكبير في التدخلات الروسية العسكرية منذ جورجيا والقرم وحتى الحالة السورية، فكلها جاءت بتوجيه ومباركة كنسية.

وبنفس القدر أيضا نلاحظ هذا الحضور الطاغي للدين في الحالة الأمريكية، التي يقول عنها المفكر الأمريكي ذي الأصول الفرنسية توكوفيل أن أكبر حزب في الولايات المتحدة الأمريكية هو الكنيسة، وهو فعلا ما ينعكس حول أيضاً في كل مؤشرات الحالة الأمريكية التي لا يزال مرتادي الكنائس فيها الأعلى نسبة غربيا إذا تتعدى النسبة الـ50 % فيما في الحالة الأوروبية لا يتجاوزن نسبتهم الـ5%، هذا عدا عن الحضور الكبير للخطاب الديني في الحملات الانتخابية.

ليس هذا فحسب في الحالة الأمريكية، فهناك ولايات أمريكية كولاية يوتا التي زرتها في عام 2013م، والخاضعة لسلطة الكنيسة الماورمونية، و يخضع دستور الولاية كلية لتعاليم الكنيسة التي تحرم شرب الخمور والعلاقات غير الشرعية قبل الزواج وغيرها من المحرمات دستوريا في الولاية.

أما بالعودة إلى الحالة العربية والسياق العلماني المشوه فيها، ومرجع ذلك التشوه إلى الحالة غير الطبيعية التي تم فيها استجلاب الصراع العلماني الديني، غير الموجود أصلا في صميم الفكرة الإسلامية التي لا تتعارض مطلقا مع حريات التدين والاعتقاد للمخالف، الذي جاءت العلمانية في الغرب لحمايتها باعتبار العلمانية الغربية أيضاً جاءت كترتيب إجرائي لاستعادة الإجماع الذي مزقته الصراعات الدينية بفعل الانشقاق البروتستانتي ضدا للكنسية الكاثوليكية، فجأت فكرة العلمانية كترتيب إجرائي لفكرة حياد الدولة في تلك الصراعات، بحسب الأستاذ رشاد الغنوشي.

أما في الحالة الإسلامية، فلم يكن هذا الإشكال موجودا أساساً، فليست الدولة مختطفة من قبل رجال الدين وإنما العكس تمامأً على افتراض وجود طبقة رجال الدين في الحالة الإسلامية، فالدولة هي التي تختطف الدين وتوظفه كمؤسسة من مؤسساتها مثلها مثل الجيش وغيره، وبتالي نحن في الحالة الإسلامية والعربية بحاجة فعلا لتحرير الدين والتدين من سلطة وسطوة الدولة وليس العكس، وذلك بجعل الدين حالة مجتمعية لا يجوز للدولة فرضه على الناس وخلق مجتمع من المنافقين المتدينين بالإكراه.

ومن هذا الصورة المشوه للعلمانية ما تجلى في التجربة البورقيبية، في الحالة التونسية التي حاول بورقيبة أن يطبقها بطريقة عكسية فحاول  مصادرة حق الناس في التدين بفرض نمط معين للحياة والذي تمثل بمنع الحجاب و منع اطلاق اللحية و التفكير بإلغاء صيام رمضان وتوزيع صيام أيامه على شهور السنة بحجة أن صيام رمضان يفقد الأمة عمل شهر كامل، وهي نفس التجربة التركية تماماً ولذلك فشلتا التجربتين فشلا ذريعا ولم يتسنى مثلا للتجربة العلمانية التركية بالنجاح إلا حينما صعد لحكم تركيا تيارات إسلامية استطاعت توقف حالة الصراع المفتعل بين الدولة ومجتمعاتها.

ومن هنا باعتقادي أن الإشكال الكبير في الحالة العربية ليس هو بغياب العلمانية أو بحضورها بقدر ما هو كامن في الاستبداد السياسي الذي حاول التستر بالعلمانية الحاكمة فترة من الزمن أو بمحاربة العلمانية ومكافحتها لدى البعض الأخر، وكلها محاولات إلهاء الناس عن أس الإشكال ومنبته الماثل بالاستبداد السياسي الذي يشتغل على ثنائيات الصراعات النخبوية ويستفيد في توظيفها في تأزيم المشهد فيما هو مستمر في استبداده وتسخير النخب في صراعات ديماغوجية عبثية تحرف الناس عن المطالب الرئيسية والجوهرية المتمثلة بالحرية في ممارسة حقوقها الطبيعية والمكفولة دستوريا.

ختاما، ما رأيناه وشاهدناه عربيا، خلال الخمس السنوات الماضية عقب ثورات الربيع العربي التي لا تزال مستمر حتى اللحظة ، كان كفيلا باستخلاص الدروس والعبر فيما يتعلق بأن مشكلة العالم العربي المستعصية هو الاستبداد السياسي، هذا الاستبداد الذي احتكر الدين ووظيفه لخدمته مثلما احتكر العلمانية ووظف نخبها لخدمته، و أن الحديث عن علمانية عربية ليس أقل منها نكته تقال على سبيل التندر ليس إلا، وأن مشكلتنا  التي نبحث لها عن حل هو التحرر من الاستبداد الذي يتدثر بكل الشعارات إسلامية أو غير إسلامية، وأن اختلاق الصراع بين النخب ومجتمعاتها هو واحدة من أهم الأدوات التي اشتغلت عليها الأنظمة الاستبدادية ونجحت عربيا إلى حد كبير، ويفترض الآن بعد انكشافها تجنب الوقوع في هذا المزلق مجددا والتركيز على جوهر المشكلة الرئيسية الكامنة بالاستبداد السياسي الذي وظف الدين مثلما وظف العلمانية والاشتراكية واللبرالية وغيرها من النظريات التي فشلت وأفشلت عربيا.     
1
التعليقات (1)
سامر
الجمعة، 31-03-2017 08:18 م
السيد نبيل البكيري الاستبداد السياسي في العالم العربي يتكئ على مرجعيات يعتبرها دينية، وللقضاء على هذا الاستبداد يجب قبل ذلك هدم مرتكزاته وذلك يتم بالفصل الكامل بين الدين والدولة، العلمانية الحقة لا تتدخل في التدين الفردي وحتى الجمعي، ما دام ذلك لا يتعدى إلى الشأن العام، وفرض أنماط دينية - أيا كانت- بقانون الدولة.