مقالات مختارة

السياسة بصفتها تهريجا!

الياس خوري
1300x600
1300x600
بداية، أردت أن أكتب عن سيرك الجدل القائم في لبنان حول مشاريع قوانين الانتخابات النيابية. الانتخابات على الأبواب والمهرّجون من قادة الأحزاب الطائفية اللبنانية لا همّ لكل واحد منهم سوى الوصول إلى قانون مفصّل على حجمه. 

لكنني اكتشفت أن هذا النقاش عبثي، فكيف نناقش قانونا انتخابيا عندما تعلن الرقابة على الثقافة أنها ليست من اختصاص جهاز الأمن العام اللبناني إلا شكليا، لأن المرجع الرقابي للرقيب الرسمي اللبناني هو رجال الدين: المؤسسة الكاثوليكية للإعلام ودار الفتوى والمرجعية الدرزية… رقابة الدولة عبر جهاز أمني على الثقافة مرفوضة أصلا، فكيف إذا كان هذا الرقيب يخضع لمرجعية رقيب آخر لا علاقة له بالقانون الوضعي، بل يتبع تأويل حفنة من رجال الدين؟

فيلم «مولانا» المصري، الذي عرض في مصر، يمنع أو تقص مشاهده في لبنان بناء على أوامر دار الفتوى، كما يضطر مخرج الفيلم اللبناني «اسمعي» لوضع حجاب أسود كي لا نرى مرور أحد رجال الدين الدروز في ساحة إحدى القرى. المخرج فيليب عرقتنجي تبلّغ القرار الديني من الأمن العام قبل أيام قليلة من العرض الافتتاحي لفيلمه ولم يكن يمتلك وقتا كافيا لحذف المشهد على طاولة المونتاج.

أمام معطى الرقابة الذي يكشف أن السلطة التي تستند إلى القانون المدني ارتضت الخضوع لسلطة أخرى، يصير الكلام عن إخضاع قانون الانتخابات النيابية لتعديلات تجميلية بلا أي معنى. فالبنى الطائفية لا تستطيع التحرر من العصبية والتعصب وشهوة الاستئثار بمغانم نهب المال العام، وكل تعويل عليها يصير بلا معنى. كما أن الكلام عن الوطن يصير مجرد لعب بالكلام، فقادة الطوائف ليسوا معنيين بالوطن إلا كبقرة للحلب.

السيرك اللبناني لم يعد ملائما للكتابة، كل كلام فيه سيكون تكرارا مملا، والحقيقة أنني كنت على استعداد للدخول في لعبة التكرار هذه لكني عدلت عن ذلك حين قرأت خبر تأييد بعض الدول العربية لقرارات السيد ترامب بمنع دخول رعايا من سبع دول عربية وإسلامية إلى الولايات المتحدة.

القرار الذي واجه معارضة شاملة من المجتمع المدني الأمريكي، ونجح القاضي الفيدرالي في سياتل جايمس روبارت بكسره ومنع تطبيقه، لقي ترحيبا من أنظمة عربية مرشحة لدخول قائمة الإرهاب الأمريكية حين يقرر ترامب ذلك.

إذا كان السيرك اللبناني يتم وسط سلم أهلي مستتب نسبيا، ما يسمح لنا بالهزء منه، فإن السيرك العربي يجري وسط حقول القتل الممتدة من سورية إلى اليمن مرورا بالعراق، وهذا يحول المشهد إلى كوميديا سوداء تثير الشفقة.

كيف يطرب هؤلاء لمذلتهم؟ ولماذا؟

وسط المآسي يكشف النظام العربي عن وجهه الحقيقي، فالرعايا السوريون والعراقيون والليبيون… الذين منعوا بقرار صاخب يشبه الأفلام الكوميدية من دخول أمريكا، ممنوعون عمليا من دخول الدول العربية، ولكن من دون إعلان. فأنظمة الساعة العربية المنقلبة تطبق الترامبية على أراضيها قبل أن يسمع العالم باسم هذا المليونير الذي يصرّ على التصرف كمعتوه.
زعماء العرب «مترنبون» أي مطبوعون على الذل، يغطون تذللهم أمام السيد الأمريكي عبر إبراز قدرتهم على إذلال شعوبهم والتشفي بالشعب السوري الذي كانوا أحد أسباب نكبته بالاستبداد والموت والدمار.

كشفوا عن حقيقتهم حين شعروا بالخطر، أخرجوا فلسطين من قاموسهم، اعلنوا عداءهم للحرية والديمقراطية، بل خُيل لبعض حمقاهم أنه يستطيع الاحتماء بإسرائيل في هذه المعركة المذهبية المجنونة التي يتصدرها أصوليون متعصبون على ضفتي الصراع الإيراني السعودي.
السيرك العربي يتمادى في التهريج كي يخفي أنه لم يعد مفيدا للزمن الأمريكي الجديد الذي شكّل حمايته الوحيدة من شعوبه ومن الشعوب العربية الأخرى. وتهريجه ممجوج ومؤلم، كوميديا تدور فوق الدم والخراب.

غير أن صعود المليونير الأبيض على عرش الإمبراطورية الأمريكية يجعل من الكلام عن السيرك العربي، مجرد هامش صغير في سيرك كوني، نصبت منصته في واشنطن، وهو كناية عن مونو- كوميديا يحتلها ممثل وحيد هو المخرج وكاتب النص أيضا.

إنه دونالد.ج. ترامب، رئيس الولايات المتحدة، النجم التلفزيوني السابق، وصاحب «منظمة ترامب»، المليونير الذي يتصرف بصفته رئيس شركة تتعاطى كل شيء، وليس رئيسا للدولة التي تملك ترسانة نووية كافية لتدمير الكرة الأرضية مرات عديدة.

هذا الرجل ليس مهرجا، لكنه يلعب لعبة التهريج، يحيط نفسه بمجموعة من الفاشيين والعنصريين من ذوي الرؤوس الحامية، يتصرف كأزعر ضاربا عرض الحائط باللياقات التي تصاحب المناصب الرسمية، يقول ما يخطر في باله أو ما يعتقد بأنه يجب أن يخطر في باله، بصفته ممثلا للأمريكي الأبيض العادي الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى…

الرجل يمثل على الأمريكيين، يهرّج بجدية مفرطة، يلعب لعبة الرئيس المختلف، نجح في تأليب الرأي العام الأكاديمي والثقافي وقطاعات واسعة من المجتمع المدني ضده، لكن قطاعات مؤيديه لم تُختبر بعد. هل سيكتفي المؤيدون بالتمتع بسلطته التي يهزها شبه إجماع إعلامي ضده، أم سينتقلون إلى الشارع، وعندها سوف تدخل الولايات المتحدة في منعطف مجهول.

الخطير في لعبة التهريج الترامبية أنها لا تقتصر على سياسته الداخلية، بل تفرض إيقاعا جديدا من التشنج على السياسة الخارجية. هل حفلة التهريج هي مقدمة لمغامرات عسكرية مجهولة؟ والى أين سيأخذنا اليمين الشعبوي الفاشي الأمريكي؟
0
التعليقات (0)