كتاب عربي 21

حكاية الحمار الذئبي

أحمد عمر
1300x600
1300x600
كانت الذئاب تهجم على أُمتنا أحيانا، فندافع عن أنفسنا، فننهزم حينا وننتصر حينا، فالأيام دول. نحن نخاف من العواء، ونعرفه بالغريزة، ضعفاء لكن حوافرنا قوية، كل رفسة مثل المطرقة. 

وفي أحد الأيام سقط على وادينا الكريم، الذي كان ينعم بالأمن والسلام حمار، مثلنا تماما، له أذنان طويلتان، وذيل، وختم، والختم بقعة سوداء خالية من الوبر، بحجم القطعة النقدية، على يد الحمار، هو ختم الصبر (والحمرنة) الذي أنتم به أعرف، كان أجربا، نفرت منه الحمير، اقترب مرة كثيرا منّا، فرفسه أحد الحمير على خطمه رفسة جزاء، فتألم وصدر منه صوتٌ، كان صوت عواء! نعم صوت عواء!

ضج الوادي بالحمار الزائر، أجمعت الحمير على أنه ذئب.

معقول ذئب؟ كيف يكون ذئبا، وهو حمار، مثله مثلنا. عندما نسمع عواء ذئب، يطيش صوابنا، وتقشعر جلودنا، وننهق نهيق الذعر.

•  أقسم بالله إنه ذئب، والدليل أنه عوى.

دار بيننا جدال طويل، أهو عواء، أم نهيق مقلوب؟

اقتربنا منه، وسمعناه يتكلم، ويخطب، فعلا كان يعوي.. يا ساتر يا حفيظ.

لنقل إنه ذئب حماري، الهيئة هيئة حمار، والنهيق عواء ذئب! لذلك قمنا بإكرامه كرما، لم يكرمه حاتم الطائي ضيوفه، رأيناه لطيفا، وربما كان يتلطف، لكنه يعوي بفصاحة وبيان، قدّمنا له أطيب التبن، وألذّ الشعير، عوى واعتذر، وقال: أنا لا آكل سوى اللحم.

نظرنا إلى بعضنا، هذا دليل أنه ذئب ابن ذئب! تقهقرنا إلى الوراء من الذعر.

ماذا نفعل يا معشر الحمير، يا بناة الحضارات؟

تداعينا إلى اجتماع عاجل في مجلس الحمير المنتخب على الطريقة العربية، في الدول اللاوطنية بعد الاستقلال المزعوم، وخرجنا منه بعد ساعات من التشاور والترافس، بضرورة تقديم اللحم له، وانتهينا بالإجماع إلى تقديم حمار نافق فاطس، لكن رئيس مجلس شعب الحمير اعترض، وقال: إن النفس أمارة بالسوء، تقدّمون لحم ميتة لضيفكم؟ ساء ما تعملون.

وما الحل يا كبير الحمير؟

اقترح رئيس مجلس شعب الحمير، وهو من الحمر الوحشية مثل بقية الأمراء في وادي الحمير، أن نقدم أضحية من أولادنا وفلذات أكبادنا له طعاما، فرأينا أن نقدم له أحد الحمير المحكومة بالسجن، لذلك قررنا زيادة العقوبة على الحمار المتهم، بجعله أضحية، وحكمنا عليه بالإعدام خنقا بين أنياب الحمار المستذئب، وجررناه إليه ظلما، وهو يستغيث، ويدعو علينا بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقلنا للحمار الذئبي: تفضل هنيئا مريئا يا سيادة الذئب، فشكرنا، ودُهش من الضيافة الكريمة، وقال: أنا لا آكل سوى في مزرعة، وعلى أنغام تغريد الحمير، فأهديناه مزرعة واسعة الأفياء، رأينا أن نهديها له، ونمنُّ بها عليه، قبل أن يغتصبها، فسعدَ بها وأوقد نارا، وشوى ابننا وأكله، ورقصت له إحدى حمارات السينما والتلفزيون رقصة السماح،  كانت ذات جاعرتين كبيرتين، وكنا نلقبها بكراديشيان الحمارات، هذا دليل أنه ذئب، فالحمير لا تأكل سوى النبات، بل هو ذئبٌ مثقف، ومتحضر، ووديع، ولا يأكل اللحم النيء، وجبته المفضلة: الحمار المكتف المحشو بالتبن والصنوبر. 

"إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ ملكته وإن أنْتَ أكْرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا". تمرد الجربان، ولم يعد يأكل سوى الحميرة الفتية، ويتجول في الأسواق، ويعوي في الحمير الطيبة، فيقع لنا ما يقع للحمير عند سماع العواء من خوف وهلع. 

سطا على المشفى الحكومي، وحوّله إلى حظيرة، وحوّلَ بيوت العبادة إلى معتقلات، يعتقل فيها من يشاء من حمير، بذريعة أنها حمير خائنة توهن الشعور القومي الذئبي وتضعف نفسية الأمة المستحمرة، ويأكلها، ثم جعل للمشفى ملحقا، يبيع فيه لحم الحمير في معلبات، أو أعضاء الحمير من كلى وأكباد وعيون بأسعار خيالية، ومنعَ الحمارُ المستذئبُ تسبيحَ الله، والكائنات كلها تسبّحُ الله بالفطرة، لأن الحمار يريد الوادي علمانيا على الطريقة العربية: يسبّحُ بحمد الذئاب!

استجلب الحمار الأجرب المستذئب حميرا جرباء مستذئبة من طائفته الجحاشية، وجنّدهم حرسا وعصابات، وخوفا منه أو طمعا ببركته تحوّلَ بعض أبنائنا إلى مخبرين لديه، بعد أن عُديتْ بالجرب الذئبي، فعشنا عصرا من الخوف لم نعهده من قبل، وتكوّنتْ في الوادي طبقة من الحمير المستذئبة، تعلمتْ بعض فنون العواء، وصارتْ تعوي عواء نهيقيا، وأُعلن عن تأسيس حزب الحمير الجربانة الاشتراكية. لم يكن لدى كل أهل الوادي موهبة تعلم العواء، الاستذئاب فن يأتي من أكل اللحوم البريئة الحرام. فقدنا خيرة أبنائنا في الحظائر المحظورة، كنا نسمع أصواتها وهي تستغيث وتستنجد، ولكن لا مجيب لها، ولا ناصر. أما من نجا من المعتقلات، فقد هرب إلى الغرب، فيما يسمى في أدبيات السياسة "نزيف الأدمغة".

وكلما خرج حمار شجاع، وقال: يا وجوه الخير، أقسم أن المفتري حمارٌ أجرب، فارفسوه قبل أن يأكلكم، لكننا كنا نخرسه، ونرفسه خوفا من الحمار المستذئب.

بعد سنوات أدركنا أن الحمار المستذئب، لم يكن سوى حمار تام الحمارية، أجاد لهجة الذئاب، لكن هيهات، فقد فات الوقت، بعد أن صارت له دولة، وجولة، وصولة، وبولة. وبات وادينا يعجُّ بمئات الحمير المستذئبة، لهم أحزاب أخرى تقدمية ترفل في حرير الجبهة الوطنية الذئبية، ولهم معتقلات خاصة حرصا على "أمن الوادي وسؤدده"، ولهم الأرض والسماء، والتبن واللحم، والجلد والعظم. وكل من اعترض اتهم بأنه عميل للذئاب العدوة، مع أن بغض الذئاب وعداوتها غريزية، وفطرة حميرية، منذ أن برأ الله النسمة وفلق الحبة.

مُنع النهيق لأنه أنكر الأصوات، وبُدّلتْ المناهج في المدارس بأبجدية العواء، وبتنا حميرا خرسا، لا تسمع لها همسا، نخرج في مسيرات أسبوعية، نعوي فيها عواء كاذبا، تأكيدا على حسن ولائنا ووطنيتنا.

فطس الحمار الأجرب الذئبي وتولى ابنه مكانه في القصر في مخالفة بائنة بينونة كبرى لدستور الحمير المقدس وقيم الجمهورية الحميرية!

جفت الزروع، وخلا الودي من الحمير القوية، وتفرقت الحمير شذر مذر هربا إلى المنافي، ولم يبق فيها سوى الحمير المكتفة المحشوة بالتبن أو بالصنوبر، وصار شعارنا: "الهرب ثلثا الحمرنة"، وصار لدولة الحمار المستذئب أجهزة توزّع الأعلاف والمياه بالبطاقات التموينية، كل شيء صار بيد الحمار المستذئب وحزبه، وسمّى هذا الذل  اشتراكية، ودارت الأيام ومرّت الأيام كما تقول أم كلثوم، ورأينا كتيبة من الذئاب قادمة من جهة الغرب، وبعد وصلت إلى تخوم الوادي عوتْ عواء الجوع، نحن نعرف العواء، ونخاف منه، هذا عواءٌ حقيقي يا أيها الربع، عواءٌ لا ريب فيه أيها النشامى، كان عواؤها مرعبا، أكثر رعبا من عواء الحمر المستذئبة النهيقي. تبيّن لنا أن المصائب تأتي مجتمعة، فالذئاب هجمت من الشمال والضباع من الغرب والكلاب البرية من الجنوب حتى الثيران النباتية هجمت علينا من الشرق!

بادرنا على الفور إلى الاستغاثة بالحمير الذئبية، التي تدّعي حرصها على أمن الوطن، ألستم حماة الديار؟ فقالوا: سنردّ عليهم في الوقت والزمان المناسبين.

اكتشفنا أن ذئابنا الحميرية جبانة، ينطبق عليها قول الشاعر:
أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر

لكن في الوقت الضائع حيث لا ينفع الندم، فقد صارت الذئاب والوحوش على الأبواب، فخفنا وازدحمنا على أبواب قصور الحمير الذئبية، للاختباء فيها، والاحتماء بجدرانها، فهي بيوت حصينة، وصرنا ننهق فنعوي ونعوي فننهق، مستغيثين، فلا عواؤنا عواء، ولا نهيقنا نهيق، كانت حشرجات الموت والحشر.

دار هذا الحوار، في محشر أبواب القصر، بين حمارين فتي وشيخ

سأل الحمار الفتي: أنت حمار شيخ وفهمان، أنستحق كل هذا البلاء من رب العالمين؟

رد الحمار الشيخ: والله لولا الزحام الذي يمنعني من الرفس لرفستك على أنفك رفسة مثل المطرقة، تذكر أننا ولينا هذا الحمار الأجرب بأنفسنا وقدمنا له حمارا بريئا طعاما، وكانت جريمته كلها أنه تحرش بحمارة بكلمة غزل، تتذكر كيف كان يستجير بنا ونحن ندفع به الخوف عن أنفسنا، تذكّر أننا سكتنا على مقتلة خيرة أبنائنا تحت التعذيب، لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا.

ومن شدة الزحام، لا من شجاعتنا، التي وصفتها وكالات الأنباء بالثورة، تحطمتْ الأبواب، فاقتحمناها، رأت الحمير الذئبية نفسَها محشورة، أو مدفوعة إلى الشرفات، فسقطتْ منها، ووجدتْ أنفسها في وجه الذئاب، فعوتْ كشفا لهيئتها لأبناء جلدتها، فصارت على "الزلط"، لكن الذئاب ذكية وتميّز الحمير من الذئاب بسهولة، فاختارتْ الحمير المستذئبة للوجبة الرئيسة لأنها سمينة، وجعلتْنا نحن الضعفاء مقبّلات، وصدقتْ مقولة ابن خلدون في الجحاش على البحر البسيط: 

حُكْمُ الطُّغَاةِ إلى الأعداء مَجْلَبَةٌ 
والظٌّلْمُ مِنْ قِدَمٍ للظُّلْمِ جَلَّابُ
2
التعليقات (2)
يسري ابو فول
الأربعاء، 08-02-2017 06:17 م
مغبون من لا يقرأ لك استاذ احمد.....
انسان
الإثنين، 06-02-2017 08:46 م
مقالاتك رائعة وعميقة الدلالة يا استاذ احمد