مقالات مختارة

إسرائيل تلاحق جميع جرائم زعيمها عدا الجريمة الحقيقية: الاحتلال

جدعون ليفي
1300x600
1300x600
تحول الشبهات حول ارتكاب بنيامين نتنياهو لسلسلة من الجرائم جمعت بشكل رئيس في ملفين، أما ملف القضية الأولى فيتعلق بقبوله هدايا من منتج الأفلام الإسرائيلي الأمريكي أرنون ميلشان. 

تقدر قيمة الهدايا التي منحت على مدى عدة سنوات بعشرات الآلاف من الدولارات، ويقال إنها تتضمن سيجارا وشامبانيا من الأنواع الفاخرة جرى توصيلها إلى مقر إقامة رئيس الوزراء. لدى ميلشان مصالح تجارية في إسرائيل لنتنياهو –الذي يشغل أيضا منصب وزير الاتصالات في الدولة– نفوذ كبير عليها. يُزعم أن نتنياهو في إحدى المرات توسط لدى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للمساعدة في الحصول لميلشان على تأشيرة زيارة طويلة المدى إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد جرى التحقيق مع نتنياهو بخصوص هذه المسألة.
 
وأما الملف الثاني فهو أكثر تعقيدا، حيث حصلت الشرطة على تسجيلات لمحادثات تجري بين نتنياهو وأرنون آخر، هو أرنون موزيس، ناشر ومدير تحرير صحيفة يديعوت أحرونوت، التي كانت حتى عهد قريب أكبر الصحف اليومية توزيعا في إسرائيل. وقعت يد الشرطة على التسجيلات مصادفة بينما كانت تجري تحريات في قضية أخرى تتعلق بأحد مساعدي نتنياهو. 
 
أثارت هذه التسجيلات ضجة كبيرة في إسرائيل بعد أن وقع تسريبها إلى وسائل الإعلام. يعطي الحوار الذي يجري بين الشخصين –أي بين رئيس وزراء يباشر مهام عمله وناشر لصحيفة رائدة– انطباعا بأنه في أحسن الأحوال نقاش حاد بين رجلي أعمال يغلب عليهما التشاؤم والتشكك وفي أسوأ الأحوال كما لو كان نقاشا بين محتالين ينتسبان إلى عصابات المافيا. كان الرجلان يتفاوضان على صفقة يتم بموجبها ضمان تغطية في يديعوت أحرونوت أكثر انحيازا لرئيس الوزراء وأكثر تعاطفا معه مقابل منافع معينة تجنيها الصحيفة. 
 
حروب الصحافة
 
توجد في خلفية هذه الأحداث صحيفة "إسرائيل هايوم"، وهي صحيفة شعبية مجانية انطلقت في عام 2008 بدعم وتمويل من مالك الكازينوهات الأمريكي شيلدون أديلسون. ونظرا لأنها توزع مجانا، فقد باتت "إسرائيل هايوم" الصحيفة الأوسع انتشارا والأكبر توزيعا في البلاد، وحلت بذلك محل يديعوت أحرونوت في المرتبة الأولى من حيث التوزيع ومن حيث الهيمنة على سوق الإعلانات.

أسس أديلسون، وهو من المقربين من نتنياهو ومن أكثر بطانته ولاء له، صحيفة "إسرائيل هايوم" منفردا لمساعدة نتنياهو في تحسين صورته وفي الرد على الانتقادات التي ترده سهامها من قبل صحيفة "يديعوت أحرونوت". تكبد أديلسون حتى الآن ما يزيد عن 800 مليون دولار من الخسارة بسبب مشروع الصحيفة، إلا أن نجاحها من حيث حجم التوزيع وسعة الانتشار واستقطاب الإعلانات ألحق أضرارا جسيمة بمنافستها يديعوت أحرونوت –والتي فقدت الكثير من قوتها ونفوذها ومواردها بفضل اختراق إسرائيل هايوم للسوق. 

تطورت الحرب بين هاتين الصحيفتين خلال السنوات الأخيرة الماضية إلى حرب ضد نتنياهو نفسه، وذلك بسبب دعمه لصحيفة "إسرائيل هايوم" وممارسته نفوذا كبيرا على محتواها وسياستها التحريرية. بل بلغ به الأمر أن دعا إلى انتخابات برلمانية مبكرة قبل سنوات قليلة حينما كاد الكنيست أن يجيز مشروع قانون يحظر إصدار الصحف المجانية، وكان يهدف من ذلك استباق التصويت النهائي على القانون بعد أن أجيز في قراءة أولية، ووأده في مهده. 

ركزت المحادثات المسجلة بين رئيس الوزراء وناشر صحيفة "يديعوت أحرونوت" على التوصل إلى هدنة بين الطرفين من أهم بنودها تقليص حجم توزيع صحيفة "إسرائيل هايوم" مقابل تعهد صحيفة "يديعوت أحرونوت" منح رئيس الوزراء تغطية أكثر إيجابية وتعاطفا. لا يكاد المرء يصدق أذنيه وهو يستمع لما جرى من نقاش بين الرجلين. فهذا رئيس الوزراء يسعى لإيجاد مواقع لمن يفضلهم من الصحفيين داخل "يديعوت أحرونوت" بينما يعد الناشر "بتدليل" رئيس الوزراء في صحيفته، وما إلى ذلك. 

منذ أن تفجرت الفضيحة وهي تولد أمواجا هائجة وبعيدة المدى كلما كشف النقاب يوما بعد يوم عن مزيد من التفاصيل الجديدة والمحرجة. والآن، على المدعي العام الإسرائيلي أفيخاي مانديلبليت أن يقرر في القريب العاجل ما إذا كان سيوجه لنتنياهو تهما بارتكاب جرائم فساد وبخيانة الأمانة، سواء في القضيتين معا أو في واحدة منهما فقط، أم لا. 
 
يسود شعور الآن بأن مانديلبليت لن يكون أمامه من خيار سوى تقديم رئيس الوزراء إلى المحاكمة. ولكن نظرا لأن مانديلبليت كان في السابق يشغل منصب أمين عام رئاسة الوزراء وبما أنه أحد مساعدي نتنياهو المقربين، فإن ذلك يعقد الأمور ويكثف ما يحوم من شكوك حول نزاهة التحقيق. 
 
سوف تحسم الأيام القليلة القادمة مصير نتنياهو. فإذا ما وجهت له التهم بشكل رسمي، فستمارس عليه الضغوط بشكل متزايد لحمله على الاستقالة، حتى وإن كان من الناحية القانونية البحتة غير ملزم بالإقدام على ذلك. ولكن لا يبدو أنه سيكون قادرا على مقاومة الضغوط السياسية والشعبية والبقاء في منصبه رغماً عنها.
 
فساد من الوزن الخفيف
 
هذه ليست المرة الأولى التي تحوم فيها الشكوك حول ارتكاب نتنياهو لجرائم فساد، ولكن حتى الآن كانت ملفات القضايا باستمرار تطوى ولا تصل إلى المحكمة. كما أن زوجته الآن تخضع هي الأخرى إلى تحقيق جنائي. 
 
يذكر أن سلف نتنياهو، رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، يقضي حاليا عقوبة بالسجن بسبب إدانته بالفساد. كما أن رئيسي وزراء سابقين اثنين، هما آرييل شارون وإيهود باراك، كانا قد خضعا لتحقيق جنائي عن أعمال إجرامية حامت الشبهات حول ارتكابهما لها، ولكن الأمر لم يصل بهما إلى المثول أمام المحكمة.

وفي هذا السياق، كان رئيس وزراء سابق آخر، هو الراحل إسحاق رابين، قد استقال من منصبه في فترة رئاسته الأولى للوزراء بسبب حيازته لما كان في ذلك الوقت يعتبر حسابا مصرفيا محظورا لأنه في مصرف أجنبي. 
 
كما أن لإسرائيل رئيسا سابقا للدولة مدانا بجريمة اغتصاب، فإن فيها كذلك وزير مالية ووزير داخلية كلاهما أدينا بالفساد وعوقبا بالسجن، إضافة إلى عدد من المشرعين الذين أدينوا بجرائم مختلفة، وكذلك كبير حاخامات على وشك أن يمثل أمام المحكمة في قضية فساد مالي جسيم. 
 
هل إسرائيل دولة فاسدة؟ نعم ولا. إن فيها من الفساد ما يكفي لإفراز هذا العدد الكبير من الاتهامات لشخصيات منتخبة تحتل مواقع عليا في الدولة، ولكنها مقارنة بغيرها تعتبر نظيفة نسبيا لجرأتها على محاكمة ومعاقبة حتى أعلى السياسيين فيها رتبة ومقاما. 
 
نحن هنا نتحدث عن فساد يعتبر نسبيا خفيف الوزن وذا مستوى متدن: فساد بالمفرق وليس بالجملة. ومع ذلك، حتى مثل هذه الجنح التي قد تعتبر من حيث المقارنة أعمال فساد شخصي صغيرة، فإننا لا ينبغي أن نتجاوز عنها على الإطلاق، بل يجب أن تعامل بجدية لأنها في غاية الخطورة وتشير إلى تعفن في جسم الدولة آخذ في التفشي والانتشار. 
 
سلوك نتنياهو على سبيل المثال، ليس فقط على المستوى الجنائي ولكن أيضا على مستوى الحياة العامة، يكرس مفاهيم امبراطورية مثل "أنا الدولة والدولة أنا"، ويشير إلى عدم التمييز بين المال العام والمال الشخصي وإلى وجود إحساس عام بأن لمن يشغلون المناصب العليا في الحكم استحقاقات لا تنبغي لسواهم. ومن حسن الحظ أن تجد من يناط بهم حفظ الأمن وإنفاذ القانون يعملون بجد في مقاومة جرائم الفساد، وإن لم يكونوا باستمرار في نفس القدر من الحزم والعزم في معارضتهم للجرائم التي يرتكبها كبار موظفي الدولة في إسرائيل.  
 
من الملاحظ في حالة نتنياهو أن المدعي العام يبدو حريصا كل الحرص على بذل كل ما في وسعه للتسويف وخلع أضراس عملية التحقيق وتأجيل توجيه التهم بشكل رسمي. فعلى سبيل المثال، مضى على وجود أشرطة محادثات نتنياهو وموسيز في عهدة المدعي العام ستة شهور قبل أن يكشف عنها ويصل خبرها إلى الرأي العام.

المحاكمات التي لم تكن
 
ولكن، بعيدا عن ذك كله، تحوم فوق الرؤوس سحابة أخرى أشد وطأة وأحلك لونا، وهي ما لا يجرؤ أحد على ذكره. إنها الحاضر الغائب، وأقصد به فساد الدولة المؤسسي الناجم عن خمسين عاما من الاحتلال، وهو الأمر الذي لا يذكره أحد ولا يشير إليه لا من قريب ولا من بعيد. 
 
عوقب رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت بالسجن لأنه اختلس بضع مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه لم يمثل أمام أي محكمة بسبب دوره في عملية الرصاص المسكوب في غزة، ذلك الهجوم الوحشي الذي شنته إسرائيل على سكان غزة الذين لا حول لهم ولا قوة فقتلت آلاف المدنيين الأبرياء، بما في ذلك النساء والأطفال والمسنين والمرضى، وحولت الآلاف من مساكنهم إلى ركام. 
 
لم يفكر أحد بتوجيه تهمة إلى أولمرت بشأن عملية الرصاص المسكوب، ولا بسبب الدمار الذي ألحقته أوامره وإرشاداته أثناء الحرب التي شنت على لبنان. كان الجندي الوحيد الذي حوكم على جرائم ارتكبت في غزة هو الجندي الذي سرق بطاقة اعتماد مصرفية من أحد المنازل في القطاع. المهم في الأمر أنه من أعلى الحكومة إلى أدناها لم يقدم أحد في إسرائيل للمحاكمة على أي من جرائم الحرب، والانتهاكات الصارخة لمبادئ القانون الدولي، وجرائم الاحتلال والمستوطنات غير الشرعية والتي تشكل مجتمعة انتهاكا مريعا وفظيعا للقانون الدولي واستهزاء به واحتقارا له. 
 
تهوى إسرائيل تقديم نفسها إلى العالم على أنها بلد ديمقراطي، على أنها دولة قانون، وعلى أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. كما تحب إسرائيل شغل نفسها بالتعامل مع الأمور التافهة نسبياً. فقد استغرقت وسائل الإعلام في تغطية الاستعراض الذي تحولت إليه محاكمة جندي ذي رتبة متدنية (إيلور أزاريا) كان قد أطلق النار على فلسطيني يحتضر بعد أن حاول طعن جندي إسرائيلي آخر، وكأنما أريد لهذا الاستعراض ولما حظي به من اهتمام إعلامي، أن يشكل الدليل الدامغ على مكانة إسرائيل الأخلاقية. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن إخلاء عدد قليل من المباني في مستوطنة آمونا. 
 
إلا أن التركيز على الفساد الصغير والجرائم التافهة يحول الأنظار بعيدا عن الشيء الرئيس، ألا وهو سلوك الاحتلال، الذي يعتبر مصدر جميع أوجه الفساد والممارسات الإجرامية داخل دولة إسرائيل، وهو الفعل لا يعادله شيء في إجرامه ولا يمكن أن تقارن به جريمة أخرى. ألا يوجد من يحاكم على هذه الجرائم بينما تنشغل إسرائيل بقضايا فساد صغيرة.. ما من شك أنه أمر يبعث على القلق الشديد وينذر بشر مستطير. 
 
لا بد من التأكيد على أن الحرب على الفساد في إسرائيل أمر مهم، ولا ينبغي بحال التقليل من أهميته. فمحاربة الفساد شيء مهم وضروري لتشكيل صفة وصورة مازال يعتبر نسبيا بلدا فتيا. إلا أن على المرء أن يجتهد وسعه لوضع الأمور في نصابها. وذلك أن إسرائيل تتخذ إجراءات ضد ما يمكن أن يعتبر في مستوى ألم الأسنان –وعلاج الأسنان مهمة ضرورية– بينما تتجاهل بشكل مطلق المعركة الأصعب والأكثر جدية ضد الأمراض المميتة التي أصيبت بها.

(ميدل إيست آي)
0
التعليقات (0)