مقالات مختارة

خصام وانتقام

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
عناوين نشرة أخبار القهر في عام 2016 ــ المسكوت عليها ــ تكسر القلب وتعذب الضمير. إذ نقرأ فيها أن الأستاذ محمد مهدي عاكف أصيب بالسرطان في سجنه وهو مقبل على عامه التسعين، وأن أستاذ الجيولوجيا بعلوم القاهرة الدكتور رشاد بيومي ممدد على سرير آخر في سجن طرة وهو في عامه الرابع بعد الثمانين. كما نقرأ أن المستشار محمود الخضيري أجرى عملية قلب مفتوح، ويكاد يفقد بصره وهو في عامه السابع بعد السبعين. وفقدان البصر مع تدهور الحالة الصحية يعاني منه كثيرون في مقدمتهم الصحفي مجدي أحمد حسن وهشام جعفر رئيس مجلس أمناء مؤسسة التنمية الإعلامية، نقرأ أيضا أن المهندس أحمد ماهر مؤسس جماعة 6 أبريل بعدما أمضى ثلاث سنوات في السجن، خرج ليقضي الليل كله في أحد أقسام الشرطة لثلاث سنوات أخرى، وهو الآن يبيت في المخفر يوميا تحت السلم من السادسة مساء حتى السادسة صباحا، وما سبق ليس حصرا بطبيعة الحال، لكنها مجرد نماذج لها نظائرها، وربما ما هو أفدح منها في محيط المسجونين السياسيين الذين هم أسوأ حظا من الجنائيين لأسباب مفهومة.


حين نطالع تلك الأخبار التي تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي ولا نرى لها أثرا في وسائل الإعلام، فلا تفسير لذلك إلا أننا صرنا نعيش ونعاني أزمتين، أزمة ممارسة القهر وأزمة السكوت عليه.


أدري أن بعض ذوي الضمائر الحية ما برحوا يلحون هذه الأيام ــ بعدما هزمنا البرد القارس ــ على إنقاذ بعض من ذكرت من الموت البطيء الذي يتعرضون له. كما أن أصواتا مماثلة ضاقت بالصمت المخجل الذي ران على فضائنا فسعت إلى تذكيرنا عبر التغريدات بمحنة المظلومين القابعين في الزنازين، ممن يتعرضون لمختلف أساليب القهر والإذلال. إلا أننا ينبغي أن نعترف بأمرين: الأول أن أصوات أصحاب الضمائر الحية صاروا نماذج استثنائية، تسمع من خارج مؤسسات الدولة ومنابرها المعتمدة، والثاني أن الأغلبية استسلمت لخطاب التنكيل والإبادة، فتجمدت قلوبها وتشوهت ضمائرها وتراجع منسوب الإنسانية لديها. ومن ثم قبلت بالتعذيب والتنكيل، وبعضها ذاب في خطاب الكراهية والانتقام حتى بات يتشوق لرؤية المشانق ويحتفي بإسالة الدماء.


لا أدافع عن آراء ولا أفعال، لكنني أدافع عن إنسانية المحتجزين وكراماتهم، حتى إذا أدانهم القضاء، ذلك أن السجن وتقييد الحرية عقوبة كافية في حالة الإدانة، ولم يقل أحد ــ كما أنه ليس من الشجاعة أو المروءة ــ أن يقترن السجن بالإذلال أو التنكيل أو تعريض حياتهم للخطر. وتلك بديهيات غابت عن واقعنا، حتى أصبحت المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان من أكثر الكيانات القانونية التي تتعرض للملاحقة والاضطهاد، وصار السعي لاستصدار قانون لمنع التعذيب أو علاج ضحايا التعذيب بمنزلة اتهامات تعرض أصحابها للمساءلة والقمع والمصادرة.


سيكون محزنا ومفجعا أن يبرر كائنا من كان التعذيب والتنكيل بأنه واقع على أناس ارتكبوا جرائم أو اتهموا بالإرهاب، وردي على ذلك أن كل من أدين في جريمة بعد محاكمة عادلة يحاسب بالقانون، وليس بالتنكيل والتعذيب، ليس فقط احتراما لإنسانيته ولكن أيضا لأننا تعلمنا أن العنف يولد العنف، وأن الذين يمارسون القمع يزرعون بذور الكراهية والثأر، ثم يحصدون المُرّ في نهاية المطاف.


لا يقولن أحد إن التنكيل بهؤلاء أخذا بثأر رجال الجيش والشرطة الذين قتلوا في سيناء وغيرها، وردي أن من يثبت بحقه القتل ينبغي أن يحاسب على فعلته ولا جدال في ذلك. ثم إن الدولة المتحضرة لا تثأر ولا ترتهن عشرات الألوف لعدة سنوات حتى تنتهي من التمييز بين الظالمين والمظلومين، ولكنها تحاسب بالقانون وتحتكم إليه. وفي كل الأحوال فإن الخصام لا يبرر التنكيل والانتقام.


لقد ازداد سعر كل شيء في مصر، وصار غاية مرادنا أن يُضم سعر «المواطن» إلى القائمة يوما ما.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل